معاداة القومية العربية: لماذا ومن مهندسها؟ 2

09:41 2023/01/06

 لإنهاء الاتحاد السوفيتي يجب تهديم أسفل جداره – بريجنسكي
 
منذ عقود، والغرب ومعه الصهيونية وكيانها وإعلامهم ومراكز بحوثهم يحاولون نفي وجود قومية عربية، ويعدون العرب شراذم متناثرة، وما يدعونه من قومية عربية إنما هو أيديولوجيا سياسية هدفها تحقيق مطامع العرب الإقليمية وغيرها وخداع الجماهير العربية من أجل تجنيدها لصالح دعايتهم القومية! تحت عنوان (من الناصرية للبعث والقوميين العرب) كتب السيد الحمد تعليقات غير صحيحة يعدد  ما سماه "أخطاء القومية العربية" ونشرت في جريدة الشرق الاوسط في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2022، وما قاله هو الآتي: "من الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها الحركة القومية العربية وأيديولوجيتها (الناصرية، البعث، القوميون العرب)، أيام سطوتها وهيمنتها على العقول قبل هزيمة يونيو/حزيران 1967، هو قمع الهويات والأقليات العرقية غير العربية في 'الوطن العربي'، وعدم الاعتراف بها، بحيث أن مصطلح 'الوطن العربي'، وهو.."مصطلح أيديولوجي أصبح يعني 'تعريب' كل شيء في هذا 'الوطن'، فلا قومية إلا العربية، ولا هويات فرعية أو متداخلة، ونفي للأقليات مهما عظم شأنها، وبذلك انتفت التعددية العرقية والثقافية في هذا الوطن، الذي أصبح يعني كل شيء، ولا يعني شيئا على الإطلاق".
ويضيف:" العروبة كيان ثقافي مشترك في هذه البقعة من العالم، ولكنها ليست قومية سياسية،أو هدف سياسي حين تؤدلج. بالفعل، ما دخلت الأدلجة السياسية شيئا إلا أفسدته"! 
في هذه المقتطفات نرى هستيريا نفي القومية العربية أو اعتبارها  أيديولوجيا وصلت بعد غزو العراق، وتداعيات ما سمي بـ"الربيع العربي"، وهو في الواقع ربيع كل من بني فارس وبني صهيون وبني العم سام، ذروة غير مسبوقة، والسؤال الأول في دحض هذه التشويهات والتي سنتناولها كلها هو: هل القومية العربية أيديولوجيا كما وصفت من قبل من اقتبس عنهم واعتمد على تلفيقاتهم السيد تركي الحمد؟ إن الفخ الذي وقع فيه هو ىنه يخلط بين مفهومين مختلفين تماما وهما الأيديولوجيا القومية والهوية القومية، ولا ندري هل هذا الخلط نتيجة عدم معرفة أم أنه تجاهل متعمد،فالقومية ليست أيديولوجيا، وأنت حينما تقول أنا عربي والفرنسي حينما يقول أنا فرنسي فذلك تعبير عن هوية محددة ثقافيا وفكريا وتاريخيا ونفسيا، وهي كيان وجودي مادي، فلا بد للإنسان من كيان في مكان ما وأن يتميز بلغته وتقاليده وأنماط حياته الروحية والمادية، وتلك هي الهوية القومية كما يعرفها كل العالم وهي كيان طبيعي ومشروع، أما الأيديولوجيا القومية فهي الانتقال من المشروع والطبيعي في الهوية القومية وأبرزها حق التوحد القومي في دولة واحدة، إلى مشروع أوسع من الحقوق القومية الخاصة بأمة ما، وتحديدا التوسع على حساب القوميات الىخرى والاعتداء عليها ونهب ثرواتها، وهو ما فعلته قوميات أوروبية مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية، وىيضا ما تفعله القومية الفارسية.
ومن أبرز مظاهر انتقال الهوية القومية إلى حالة الأيديولوجيا هو ظاهرة الاستعمار للعالم الثالث، والذي كان عبارة عن سباقات بين أمم أوروبية لاستعمار العالم الثالث ونهبه والاعتماد على موارده وشعوبه في تحقيق أكبر تقدم للقوميات الأوروبية. ولولا هذا النهب لما نهضت أوروبا، ويكفي أن نذكر بأن ما سرقته بريطانيا من الهند يعادل كل الثروات التي كانت موجودة في أوروبا، طبقا لكارل ماركس في كتابه (في الاستعمار)! ويصل التنافس حد الحروب بين قوميات أوروبية، كما حصل مثلا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وكانتا عبارة عن صراع على المستعمرات ومن أجل السيطرة على العالم، وفي الحالة الأخيرة تضطر الدولة القومية ومنظريها لاختلاق مبررات فكرية ونفسية للغزو ونهب العالم واضطهاد الشعوب الأخرى، مثل أن من يملك ثروات العالم شعوب بدائية لا تعرف كيف تستغلها وهي ثروات من حق كل البشرية الاستفادة منها! وأننا متقدمون ومتحضرون ونعرف كيف نستثمر تلك الثروات!
وكل تلك التوجهات هدفها إقناع شعوب الدول الأورربية أن الاستعمار وغزو الآخرين ونهب ثرواتهم عمل مشروع من جهتين: الجهة الأولى أن العالم الثالث متخلف ولا يعرف كيفية الاستفادة من الثروات في بلده فنتدخل لصالحنا وصالح البشرية لأن هذه الثروات ملك لكل البشرية، والجهة الثانية ترويج فكرة التفوق العنصري الأوروبي لتبرير الغزو والاستعمار. وهكذا تنتقل القومية من هوية مشروعة لشعب ما إلى غطاء وتبرير أيديولوجيين للغزو والعدوان والنهب، باستخدام تبريرات فكرية ونفسية وادعاءات كاذبة، وهذه هي الأيديولوجيا القومية. والسيد تركي الحمد اعتمد على الأيديولوجيا القومية الأوروبية في تعميمه تلك المرحلة من تطور القوميات الاوربية ليسقطها على العرب وقوميتهم بطريقة مصطنعة وغير ممكنة عمليا ونظريا.
لقد تجاهل -ولا أعتقد أنه يجهل- حقيقة أن القوميات في العالم الثالث كانت ومازالت ذات طابع تحرري مشروع، لأنها تعبير عن تطلعات أمة وحقها في الحياة والتحرر وإقامة دولتها القومية، وسيعجز عن تقديم مثال واحد لقومية عالمثالثية استعمرت آخرين، لذلك فإنكاره ىن القومية العربية كانت ومازالت حركة تحرر وطني عامة وبغض النظر عن تجارب الحكام العرب، واعتبارها أيديولوجيا إنما هو موقف غريب ينكر بطريقة مدهشة ما جرى وما يجري في التاريخ الحديث والقديم، فالعرب لم يغزو أمما أخرى كي يستحدثوا ايديولوجيا قومية تبرره، ولذلك استخدموا كلمة (فتح) والتي تعني فتح أبواب الوعي والتحضر والإيمان عندما دخلوا بلدانا أخرى لنشر دعوة دينية وتقدم حضاري، ولم ينهبوا ثروات الآخرين كما فعلت أوروبا أو أمريكا، والأنظمة الوطنية والقومية العربية كنظام عبدالناصر في مصر والبعث في العراق لم تظهر لديهما نظرات توسع على حساب أمم أخرى، وبالتالي فإن حركة القومية العربية طوال أكثر من قرن مضى كانت نضالا مشروعا ومطلوبا من أجل أمة من حقها أن تبعث من جديد وتعيد بناء دولتها القومية الواحدة والتي قامت قبل ظهور كل القوميات الأوروبية، والتي يدعي منظرو الغرب وأتباعهم العرب أن قوميتنا العربية نسخة منها!
لقد كان سكان أوروبا عبارة عن قبائل بدائية عندما بزغ فجر الحضارة العربية على العالم بتمكن الدولة الأموية، وهي دولة قومية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى هوياتي، من نشر  الحضارة والتنوير والإسلام في عدة قارات ولكنها ولم تنهب شعبا، وكانت نهضة أوروبا تعود في أحد أهم أسبابها لتقدم الحضارة العربية ونقلها لمنجراتها لأوروبا عبر الأندلس، وجاءت الدولة العباسية لتكمل الرسالة العربية خصوصا بعد أن طهرت نفسها من الاختراق الفارسي وتحولت بغداد إلى (متروبوليتان) مزدهر أي عاصمة العالم العلمية والثقافية والادبية والفنية، وكان أبناء أوروبا يأتون لبغداد للتعلم، مثلما يذهب العرب الآن إلى الغرب للدراسة والتعلم.
وطبقا لكل ما سلف من حقائق تاريخية وجينية فإن القومية العربية ليست ىيديولوجية ولم تصبح أيديولوجية في أي مرحلة من مراحل تطورها، بل هي هوية قومية ناضلت من أجل وحدة العرب وتوسعت بإضافة المسلمين غير العرب إليها لأنها حملت مسؤوليات دينية أيضا، وقامت بنشر العلم والفكر والايمان في العالم ،ولكن هذه الأمة تراجعت لأسباب كثيرة منها تدخل الاستعمار الغربي الذي دمر ما تبقى للعرب من مظاهر حية، الأمر الذي أعاد فرض واجبات قومية طبيعية، فوحدة الشعب العربي المقيم في أرضه التاريخية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، حق طبيعي لكل قومية مضطهدة وهو حق مارسته ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا بتحقيق وحدتها القومية وكان ذلك حقا مشروعا لها عند هذه الحدود .
 والعرب هم شعب من بين ثلاثة قوميات في العالم فقط بقي شعبها مقسما: فكوريا مقسمة بقوة الغزو الأمريكي لجنوبها، والصين فصلت عنها القوى الاستعمارية مكاو وهونج كونج وتايوان، ومن حق الكوريتين والصين والعرب التوحد القومي، وبالنسبة للعرب لا بد من التذكير بأن الىمة العربية قسمت إلى أكثر من عشرين دولة ليس بقرار عربي بل نتيجة الخطة الاستعمارية المعروفة (فرق تسد)، فأول حق للعرب هو استعادة وحدتهم القومية التي عرفها العالم في آخر ثلاث نهضات حضارية عربية معروفة: نهضة الأمويين والعباسيين والىندلس التي كانت اللقاح الحضاري الذي حقنه العرب في جسد أوروبا المتخلفة، وفي بقية الأمم.
 
       لم اعتبر السيد الحمد القومية العربية ايديولوجيا؟ هدفه واضح وهو أن من السهل مقاومة ورفض الأيديولوجيا من قبل ىبناء الامة أنفسهم بصفتها (زائدة فكرية مضرة)، إضافة لإرهاب أبناء الأمم الأخرى من وحدة العرب ونهضتهم، وتلك هي من منطلقات تفكير المثقفين المستغربين العرب، أما عندما ننظر للقومية العربية بصفتها حركة تحرر وطني هدفها تحقيق آمال وتطلعات شعب واحد تربطه لغة وتقاليد وصلات روحية وحتى صلات قبلية ومصالح اقتصادية وأرض ممتدة بلا عوائق إلا إسرائيل الغربية فإن القومية العربية تظهر بقوة على أنها في آن واحد هوية لشعب عريق وحركة تحررية مشروعة للأمة العربية.
 هذه حقائق ميدانية وجدت قبل عبدالناصر وقبل البعث. وزج السيد الحمد القوميين العرب قادة أو حركات في الىمر ما هو إلا استسلام تام لنزعة ثأرية صنعتها صراعات العرب وىنظمتهم منذ نهاية الخمسينيات، وتلك من مظاهر التخلف في الوعي وتدني الشعور بالمسؤولية، وكان عليه الانتباه إلى أن المرحلة الجديدة التي يواجه فيها العرب كلهم أنظمة وشعبا تهديد الإفناء المخطط لهم، وهو ما يفرض عليه تجاوز عقد الماضي، خصوصا وأن الأخطاء كانت سمة كافة الأنظمة وليس نظما محددة بذاتها فقط، كما يريد أن يوحي السيد الحمد.  
ومن خطايا السيد تركي الحمد هو أنه تجاهل بطريقة ملفتة للنظر ان القومية العربية هي أقدم قومية في العالم وهي ليست تقليدا للقوميات الأوروبية التي ظهرت بعدها بقرون طويلة، فما الذي يجعله يروج لفكرة حداثة القومية العربية؟ يتبع.