معاداة القومية العربية.. لماذا؟ ومن مهندسها؟ 1

04:03 2022/12/31

لإنهاء الاتحاد السوفيتي يجب تهديم أسفل جداره - بريجنسكي
 
معاداة القومية العربية ظاهرة تبلورت بقوة منذ خمسينيات القرن الماضي عندما نهضت الأمة كلها من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي تدعو للوحدة العربية ورفض التجزئة، وتؤكد على أن أمتنا العربية محكوم عليها بالفناء إذا لم تتوحد وبأسرع وقت، وبقوة هذه النهضة الجبارة أقيمت أول وحدة عربية في العصر الحديث في عام 1958 بين مصر وسوريا، بعد أن أشعل العدوان الثلاثي البريطاني والفرنسي والاسرائيلي على مصر في عام 1956 المشاعر القومية العربية في كل الأقطار وخرجت الملايين تهتف: (من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر لبيك عبدالناصر)، فنهض العرب كما لم ينهضوا منذ قرون قوة جبارة اكتسحت الكثير من السدود؛ وهو ما أرعب الغرب الاستعماري والصيهونية، وكل هذه القوى اتحدت لإجهاض النهوض القومي العربي بكافة الوسائل والصيغ، وأخذت الخطط تنفذ واحدة بعد الاخرى حتى وصلنا إلى عام 1967 بتدبير الحرب الاسرائيلية المدعومة كليا من الغرب على مصر وسوريا والأردن، وتم غزو سيناء والضفة الغربية وغزة والجولان من قبل إسرائيل الغربية المقامة في فلسطين المحتلة.
وهكذا بدأت رحلة التراجعات العربية مقابل الهجوم الكاسح لقوى الغرب الاستعماري والصهيونية، خصوصا بعد رحيل عبدالناصر وصعود السادات، وكان الجهد الرئيس في خطط الغرب والصهيونية منصبا على محو القومية العربية وإحلال القطرية محلها، فكانت الساداتية بداية تلك المرحلة من النضال العربي فظهر شعار (مصر أولا) ثم تبعتها أنظمة أخرى رفعت نفس الشعار وكان ذلك محاولة تمهيدية لمحو القومية العربية!
 ورغم أن مرارة الهزائم والخسائر الضخمة للعرب كانت توفر مبررات ظاهرية تحرك النزعة القطرية وتدعمها لدى البعض فإن التغيير الشامل لم يحصل وبقيت للقومية العربية قوتها وجماهيرها مقابل ظهور كتل صغيرة، ولكنها مدعومة من الغرب وتحت تصرفها إعلام متطور جدا ومال كثير وخبرات عالمية سخرت كلها للتشكيك بالقومية العربية وإن تراجعات العرب سببها القومية العربية! وأخذت تظهر نزعات انفصالية من الأقليات، وزاد الأمر خطورة عندما تجاوز الأمر الأقليات الموجودة في الوطن العربي إلى تنفيذ خطة محاولة تفكيك هوية الشعب العربي الواحدة ذاتها بالعمل على تحويلة إلى شراذم متناحرة علىأسس عنصرية أو تاريخية، فظهرت دعوات أحياء الفرعونية في مصر والأمازيغية والأفريقية في المغرب العربي، والآشورية والسومرية والبابلية في العراق والكنعانية في سوريا ولبنان ...الخ، فكانت صورة الوطن العربي في السبعينيات وعلى منابر الإعلام الغربي والصهيوني تبدو ظاهريا كأنها فسيفساء تتناثر تلقائيا!
وكلنا نعلم منذ ذلك الوقت، والذي لم يعلم وقتها عرف فيما بعد، أن كل تلك التطوارت السلبية كانت خطوات تنفيذية رسمية للمخططات الغربية الاستعمارية والصهيونية وكان عنوانها الصريح هو (محو القومية العربية) عبر شيطنتها وتحميلها كل الآثار السلبية لما واجهته الأمة العربية، وأبرز مشروعين هما مشروع برنارد لويس لتقسيم الأقطار العربية، ومشاريع إسرائيل الغربية التي لخصها عوديد ينون في (استراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات) وكلتاهما قامتا على دعم الأقليات ودفعها للانفصال، والسبب في العمل على شيطنة القومية العربية هو لأنها مصدر قوة العرب ولحمتهم العضوية وليس السياسية فقط، ومع ذلك وأيضا نتيجة لانهيار السد العربي فإن هناك كتل وجماعات تجرأت على المحضور وأخذت تتعاون علنا مع الصهيونية والغرب ضد الأمة العربية سواء بصفتها أقليات قومية أو دينية، أو جماعات تدعو لإحياء جذورها، سواء كانت جذورا مزيفة صنعتها المخابرات الغربية والصهيونية كالأمازيغية، أو حقيقية كالجذور الفرعونية والآشورية والكنعانية وغيرها، لكن الأخيرة هي جذورنا الأصيلة التي تعود لأجدادانا، وهي ليست غريبة عنا. فنحن أحفاد الفراعنة والبابليين والكنعانيين، ولكن المخطط تعمد إلغاء صلتنا العضوية بالقومية العربية. فتصدينا بقوة المنطق وحقائق التاريخ والواقع الفعلي لكل تلك المحاولات لتزييف التاريخ، وكان للعراق تحت قيادة البعث دور رئيس في لجم هذه التيارات.
 كان الوضع العربي طوال فترة الصراع تلك، وحتى غزو العراق، يتميز بوجود قوة قومية منتشرة في الوطن العربي مركزها العراق تدحض وتهشم منطق الغرب والصهيونية وإسرائيل الشرقية (إيران) التي أضيفت لهما في مجرى الصراع. ولكن بعد غزو العراق وتدمير أكبر نظام قومي عربي تراجعت القوى القومية وحوصرت ومنعت رموزها ومفكريها وقواها من التعبير عن رأيهم، وفسح المجال للأقليات الحقيقية أو المفترضة أن تعمل بقوة ضد القومية العربية بعد توفير إمكانات هائلة مادية وفنية لها، لذلك طفت على السطح كل تلك الفقاعات السرطانية من موريتانيا حتى اليمن، واقترن ذلك كله بتحويل بعض تلك الجماعات إلى قوى مسلحة تعمل وهي تقيم اقوى العلاقات مع إسرائيل الغربية والغرب على الانفصال عن الأقطار العربية بقوة السلاح كما في السودان والعراق وسوريا.
هذا المخطط استقرت اركانه على المحاور الرئيسة التالية:
       1-هناك دعم هائل صهيوني وغربي إعلامي وثقافي ومادي ومخابراتي وسياسي للأقليات تحرضها على الانفصال أو ادعاء (أنهم هم السكان الأصليون وأن العرب محتلون جاءوا من جزيرة العرب)!
       2-الادعاء بأن القومية العربية مستنسخة من القوميات الأوروبية حديثة الظهور ولا تصلح لتكون رابطا بين شعب متعدد الاصول كالعرب.
3- أن القومية العربية أيديولوجيا تستخدم لأهداف سياسية.
       4- أن الاسلام هو رابط ديني ويمكنه التوفيق بين تلك (الشعوب) التي تسكن الوطن العربي بعد ضرورة التخلي عن (أوهام القومية العربية).
       5- القومية العربية اضطهدت الأقليات ولم تعترف بها وحاولت محوها وتعريبها بالقوة سواء في عهد عبدالناصر أو البعث.
ما العمل وكيف نواجه هذه الخطة بنجاح؟
سنستأنف نضالنا القومي الفكري بعد توقف اضطراري بتناول نماذج من الدعايات المنتشرة اعلاميا وأكاديميا. وسنبدأ بما كتبه كاتب سعودي هو السيد تركي الحمد، ليس لأنه أشهر من كتب في ذلك فهو مقلد لآراء كتاب غربيين وإسرائيليين، بل لأنه سعودي والسعودية تمر بمرحلة انتقال نوعي في تركيبتها الفكرية وأهدافها الاستراتيجية تختلف نوعيا عن سياساتها في العقود الثمانية السابقة، وينسحب ذلك على تحالفاتها الإقليمية والدولية، وما يجب أن يوضع في كل لحظة أمام نواظرنا هو أن السعودية تمر في حالة تحول جذري خطير وهو وضع يفرض على كل عربي، خصوصا على كل سعودي أن يحسب أكثر من مرة ما يقوله عنها أو فيها، وبغض النظر عن رأيه فيها قبل سنوات أو عقود، فالوضع تغير جذريا وقواعد التفكير والعمل انقلبت ولم تعد السعودية هي ذاتها سعودية القرن العشرين. فهل كان السيد تركي الحمد واعيا لما كتبه ولمدى خطورته على السعودية قبل غيرها وعلى مشروع الأمير محمد بن سلمان التحديثي، وهو مشروع وطني سعودي سواء تم الاعتراف بذلك أو نفيه؟ ووطنية مشروع بن سلمان لا بد أن تفضي إلى قومية مشروعه لأن الوطنية السعودية عربية الأصل والهوية وليس فيها أقليات قومية، وهي بالتالي تقع في قلب القومية العربية التي تعد بحق التعبير الوجودي عن بشر لهم لغة وتاريخ وتقاليد وأرض واحدة، وإلا فبأي هوية يعرف السعودي نفسه؟
وأنا حينما أكتب ذلك لا بد من التذكير بأنني مناضل بعثي اشتراكي، وهو منظور مختلف مع منظور الأمير محمد بن سلمان. ولكن هذا الاختلاف ليس هو الموضوع الأهم، بل الأهم هو وحدة الموقف العربي تجاه التحديات الخارجية التي تضع كل الاقطار العربية على حافة الفناء كما نراه الآن، لذلك فالاشتراكي البعثي والرأسمالي السعودي ماداما ينطلقان من مصلحة الأمة والوطن ويناضلان لحمايتهما، فإنهما في معسكر واحد ويحشدان قواهما للدفاع عن الأمة، وفي هذه المرحلة ندافع عن مشروع بن سلمان التنويري والتحديثي والاستقلالي -وبغض النظر عن تحفظات هنا او هناك فيه- وهي مهمة مشرفة لنا نحن الاشتراكيون العرب، فالأمة تحتاج لأفق واسع ونظرات واقعية تحسب الحساب لكل موقف ونتائجه وليس فقط لمقدماته، الأمر الذي يجعلنا ومن ىجل الأمة العربية كلها نؤمن بوطن عربي واحد بأنظمة اقتصادية وسياسية مختلفة، والمثال الصيني يقدم لنا صورة ناجحة. فالصين نجحت في إقامة وطن واحد بنظامين مختلفين رأسمالي واشتراكي بعد عودة هونك كونج ومكاو لها وفيهما نظام رأسمالي بقي كما كان ولكن تحت مظلة الصين القومية.
هذه ملاحظة جوهرية تشكل انعطافة في طريقة تفكيرنا نحن العرب الذين كنا نتمسك بخيار واحد ونرفض الآخر المختلف معنا، ولكننا تعلمنا من تجارب واقعنا وواقع العالم وما واجهناه من كوارث أن نتقن فن تحديد الأولويات، خصوصا وأن نمط التفكير الواحد الذي ساد الأمة العربية أدى إلى فشل كثير من تجاربنا وانخرطنا في صراعات مهلكة لنا جميعا بينما كان ممكنا أن نقيم الوحدة العربية أو الاتحاد العربي مع مراعاة وجود أنظمة مختلفة. فلا تتم الوحدة بالقوة ولا بالإلحاق، بل بالاختيار الحر لكل قطر عربي مع المحافظة على النظم الاقتصادية والفكرية فيها، وطبعا لا بد من تعديلات تضمن سد الثغرات التي يتسلل منها الأعداء كالفقر والأمية وغياب العدالة، وهي تعديلات ممكنة.
فكيف يمكن تحقيق ذلك؟ وكيف ندحر مخطط تفتيت أمتنا ومحو وإضعاف هويتنا قوميتنا العربية؟
 
 يتبع....
 
كاتب وسياسي عراقي