نظرية المصلحة والعلاقات البشرية

02:27 2023/07/06

نظرية المصلحة هي من أحدث النظريات التي توصل إليها الفكر السياسي البشري. ويبدو أنها خلاصة تجربة البشر خلال تاريخهم الطويل على هذا الكوكب، بعد أن أدركوا أن النظريات القائمة على المثالية ليست أكثر من تمنيات وخيالات لا مكان لها على أرض الواقع، وليست أكثر من تنظيرات مكانها عقول الفلاسفة وبطون الكتب وفي قاعات الدراسة والمحاضرات النظرية، وبعد أن أدركوا بأن المصلحة هي المحرك الأساسي لكل التعاملات البشرية وعلى كل المستويات الفردية والجماعية. فالمصلحة هي من تجعل الشخص يغير أفكاره وحتى معتقداته وولاءه وحتى مشاعره، وهي وحدها من تجعل الناس يلتفون حول من بيده مصالحهم وحاجاتهم، وهي من تجعلهم لا يعيرون انتباه أو اهتمام لمن ليس بيده أي مصالح لهم.
 
فالمصلحة هي من تصنع حول المسئول عن مصالح الناس الهيبة والمكانة، وهي من تجعلهم يقدمون كل فروض الطاعة وكل أشكال الاحترام والتودد له والتقرب منه، وهي نفسها من تزيل عن ذلك المسئول الهيلمان بمجرد أن يتم تغييره، وبعض من بيدهم مصالح الناس يظنون أن إلتفاف الكثير من الناس حولهم والسمع والطاعة لهم.
 
هو نتاج حب الناس لشخصهم، والحقيقة أن كل ذلك ليس حبا فيه ولكنه بدافع المصلحة. ولا يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل إن الكثير من العلاقات الاجتماعية والأسرية تحكمها أيضا المصلحة، فالطفل يتعلق بوالديه بدافع ما يقدمانه له من خدمات ورعاية واهتمام، وبمجرد أن يكبر ويعتمد على نفسه يبدأ بالابتعاد التدريجي عنهم، وكذلك الحال في العلاقات الزوجية فالمصالح المتبادلة بين الزوجين وما يقدمانه لبعضهما من مصالح مختلفة هي من تحكم تلك العلاقات، فكلما كانت المصالح كبيرة كانت العلاقة أقوى، والعكس صحيح. وبمجرد أن يختل ميزان تبادل المصالح بين الطرفين، فإن الطرف الفاقد للمصالح يبدأ بالتذمر من الطرف الآخر، وتبدأ الخلافات الزوجية بالظهور وصولا إلى الفراق وحتى القتل أحيانا، وموضوع الحب والغرام ليس أكثر من الوسيلة لتحقيق تلك المصالح، فبمجرد أن تتلاشى أو تختل تلك المصالح يتلاشى الحب وينتهي وفد يتحول إلى عداوة، ومن النادر أن تجد علاقات اجتماعية بشرية خالية من المصلحة والنادر لا حكم له. 
 
وللمصلحة حضور كبير في الجانب الديني والتعبدي، فالكثير من البشر تراهم يعبدون الله تعالى طمعا في الحصول على المصلحة والرزق وخوفا من العقاب، وليس حباً في الذات الإلهية. والبعض الآخر يجعل من تدينه وتمسكه بالدين مجرد مظاهر لخداع الناس والتغرير عليهم بهدف تحقيق أكبر قدر من المصالح منهم، فظهوره بمظهر التقي الورع الملتزم يساعده على تحقيق الكثير من مصالحه بيسر وسهوله، فكم ذكرت لن كتب التاريخ عن أحول الشعوب والأمم والأفراد الذبن غيروا معتقداتهم بسبب المصلحة، والذين آمنوا بالبدع والخرافات والضلالات المتعارضة مع الشرع والعقل بسبب المصلحة أيضاً، فالمصلحة عند العديد من الأشخاص قد تجعلهم يعبدون الخرافات والأساطير ، وليس منا ببعيد تلك المقولة التي يرددها الكثير (من أجل مصلحتي أنا مستعد أن أتحالف مع الشيطان). كل ذلك يظهر واقعية وحضور نظرية المصلحة في حياة البشر، ولا يتوقف الأمر عند ذلك الحد فالمصلحة قد تدفع الأخ لقتل أخيه والصديق لقتل صديقه، بل إنها قد تذهب بعيد في ذلك فكم من القادة والحكام من أغرتهم المصالح السلطانية للزج بشعوبهم في حروب وصراعات صار ضحيتها مئات الألاف من البشر. ولا يستطيع أحد أن ينفي وجود الصالحين والمتقين لله حباً لذاته في كل زمان ومكان. 
 
إنها المصلحة التي قد تجعل المفاهيم تتغير وتتبدل، ففي سبيل تحقيق المصلحة قد يصبح الشر خيرا والخير شرا، وقد تصبح الخرافة والأسطورة ديناً، وقد يصبح الشرير والمجرم والفاسد واعظاً ومرشدا، وقد تصبح الحرية والكرامة منكرا والعبودية والذل والخضوع معروفاً، إنها المصلحة التي تغير النفوس وتبدل المواقف وتجعل القريب بعيدا والبعيد قريبا، والتي قد تجعل الأهل والأقارب أعداء، إنها المصلحة التي تجعل الكثير من البشر يقدسون ويعظمون بشرا مثلهم، إنها المصلحة التي تجعل من دعاة الخير والحرية والعدالة والتعايش السلمي والمساواة والعزة والكرامة أشراراً ومرجفين ومخربين، وتجعل من دعاة الشر والفتنة والعبودية والكراهية والظلم أخياراً ومصلحين، إنها المصلحة التي تجعل العديد من البشر يتذللون لبشر مثلهم لمجرد أن مصلحة لهم عنده، لذلك تعمل أنظمة الحكم الاستبدادية على حصر مصالح الشعوب في يد أعوانها والتابعين لها، كوسيلة ابتزاز لإذلالهم وامتهانهم واستعبداهم، لأن القائمين على هذه الأنظمة يدركون أهمية المصلحة في حياة البشر.