العدل أساس الحكم الرشيد
من يبحث في كتب الفكر السياسي سوف يجد الكثير الكثير من النظريات والأفكار والايديولوجيات والتشريعات الدينية التي تسعى إلى إقامة نظام حكم رشيد ومثالي ، وإن تعددت وتنوعت الوسائل والأساليب والآليات ، وجميعها في نهاية المطاف تدور حول حلقة واحدة لا يمكن تحقيق الحكم الرشيد بدونها وهي حلقة العدل ، إلا أن العدل للأسف الشديد يظل مقصورًا على الجانب النظري ، ويتلاشى مفعوله بمجرد الانتقال من التنظير إلى التطبيق ، فما هو مكتوب ومدون في الدساتير والقوانين والنظريات في واد وما هو حاصل على أرض الواقع في واد آخر ، في حالة انفصام عجيب بين النظرية والواقع في هذا المجال بالذات ، وكأن تطبيق العدل المجرد من النزوات والأهواء في حياة البشر مجرد حلم يراودهم في خيالاتهم وأمانيهم في كل زمان ومكان ، ولا يمكن قيام نظام حكم رشيد ومثالي بدون تطبيق العدل بمفهومه المجرد من الأهواء والمصالح.
وبذلك فإن تطبيق العدل هو معضلة المعضلات في تاريخ أنظمة الحكم في كل زمان ومكان ، وهو العائق دائما وأبدا في حصول البشر على أنظمة حكم رشيدة ، وذلك لأن العدل بمفهومه المجرد الغير قابل للانحياز لأي طرف ، والغير قابل لإرضاء طرف على حساب الأطراف الأخرى ، والغير قابل لمنح أي طرف امتيازات على حساب حرمان بقية الأطراف لتلك الامتيازات ، العدل الذي ينظر إلى الجميع بمنظار واحد ومقياس واحد دون تمييز ، العدل الذي يجعل الجميع متساوون في كل الحقوق والواجبات ، العدل الذي يجعل الحاكم مجرد أجير وخادم عند المحكومين ، غير قابل للتطبيق على أرض الواقع بشكله الصحيح وكما يجب أن يكون ، وذلك لأن القائمين على السلطة والحكم في كل زمان ومكان لا يترددون في منح أنفسهم الكثير من الامتيازات ، التي تمنحهم الفوقية والتميز على الآخرين ، والتي قد تدفع الكثير منهم إلى جعل أنفسهم فوق النظام والقانون وحتى الدستور ، ومن هنا يبدأ تلاشي حلم الحصول إلى نظام حكم رشيد.
فالحكام والسلاطين والقائمين على السلطة في كل زمان ومكان هم العائق الأول والأكبر في حرمان المجتمعات البشرية من الحصول على نظام حكم رشيد ، لأنه وبمجرد اختلال ميزان العدل لمصلحة أي طرف أو جهة تحت أي مبرر كان ، لا يمكن الحديث عندها عن نظام حكم رشيد ، وكلما اقترب النظام السياسي من العدل والتزم به وكلما ابتعد عن الظلم والاستبداد كلما كان أقرب للحكم الرشيد والعكس صحيح.
وبذلك فإن العدل هو المقياس الحقيقي لتحديد نوعية نظام الحكم ، ولتحديد قربه أو بعده عن الحكم الرشيد ، ولم يتحقق الحكم الرشيد في عهد الدولة الإسلامية إلا في العهد النبوي الشريف ، وكان أكثر قربا من الحكم الرشيد في عهد الخلفاء الراشدين ، وبعد ذلك كلما مر الزمن والوقت ابتعدت أنظمة الحكم المتعاقبة في حكم بلاد المسلمين عن الحكم الرشيد ، بل لقد وصل الحال في مختلف الفترات التاريخية إلى قيام أنظمة حكم استبدادية وقمعية وارهابية وريعية وعنصرية لا علاقة لها بالحكم الرشيد لا من قريب ولا من بعيد..
وأي نظام حكم لا يقوم على المساواة التامة بين جميع أفراد المجتمع ليس بنظام حكم رشيد ، قال تعالى (( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة )) ، بل هو الصورة المتطرفة لنظام الحكم العنصري ، وأي نظام حكم لا يقوم على تحقيق العدل بين جميع أفراد المجتمع ، قال تعالى (( وأمرت لأعدل بينكم )) ، ليس بنظام حكم رشيد بل هو الصورة المتطرفة لنظام الحكم الاستبدادي ، وأي نظام حكم لا يقوم على الشورى ، قال تعالى (( وأمرهم شورى بينهم )) (( وشاورهم في الأمر )) ، ليس بنظام حكم رشيد بل هو الصورة المتطرفة لنظام الحكم الدكتاتوري ، وأي نظام حكم لا يحترم حقوق وحريات وكرامة أفراد المجتمع قال تعالى (( ولقد كرمنا بني آدم )) ، ليس بنظام حكم رشيد بل هو الصورة المتطرفة لنظام الحكم القمعي والارهابي ، وبذلك فإنه من غير المقبول التحدث عن نظام حكم رشيد في ظل غياب العدل والمساواة والشورى والحريات والحقوق الانسانية ، مهما حاول القائمون على تلك الأنظمة تزيينها وتلميعها ، فتلك المحاولات البائسة واليائسة ليست أكثر من قناعات ومكياجات لتحسين قبح وبشاعة تلك الأنظمة في كل زمان ومكان ، والتي سرعان ما تزول مع مرور الأيام وانكشاف سوءة تلك الأنظمة أمام الجماهير من خلال أفعالها وممارساتها وسياساتها القمعية والاستبدادية على أرض الواقع ..!!
ذلك على المستوى الجمعي والسياسي والسلطوي ، أما على المستوى الفردي فإن الإنسان الرشيد مطالب بتحقيق العدل مع نفسه ومع أسرته ومع مجتمه ومع جميع البشر ، قال تعالى (( إن الله يأمر بالعدل والاحسان )) ، وفي حال عدم الالتزام بالعدل في القول والفعل والشهادة والمعاملة والتجارة ...الخ ، يبتعد الإنسان عن الرشد والحكمة ، فأين الرشد من الإنسان الظالم والمتعجرف والمستبد وناهب حقوق وأموال الآخرين بدون وجه حق ، وأين الرشد من الإنسان المتطرف والمتشدد والارهابي الذي يبيح لنفسه قتل الآخرين وسفك دمائهم وهتك أعراضهم ونهب ممتلكاتهم ، وأين الرشد من الإنسان الذي يبيح لنفسه غش الآخرين في التجارة والمعاملات والبيع والشراء ...الخ ، فالإنسان الرشيد هو بدون شك الإنسان العادل في كل معاملاته وأفعاله وأقواله ومعا كل الناس حتى مع اعدائه ، قال تعالى (( ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى )) ، وهنا تتجلى غاية المثالية والإنسانية في الأحكام والتشريعات الإسلامية ، وفي مثل هذه المواقف العظيمة يتجلى الرشد في أعظم صورة ، وكلما ابتعد الانسان عن أهواء نفسه ونزواتها وأطماعها والتزم بالعدل كلما اقترب من الرشد والكمال والحكمة والعكس صحيح.