الحروب الدينية والأطماع السلطوية
من المعلوم لدى الجميع بأن الله تعالى فرض الحروب الدينية (الجهاد) لأغراض وأهداف سامية وعظيمة، في مقدمتها رفع الظلم عن المظلومين، ومنح الناس حرية التدين قال تعالى (لا إكراه في الدين)، لكن للأسف الشديد معظم الحروب التي نشأت وتنشأ بين الدول أو الأمم أو الحضارات الإنسانية، ليست أكثر من حروب دنيوية ذات نزعة قد تكون سياسية أو اقتصادية أو توسعية أو استعمارية ويسعى القائمون عليها إلى تغطيتها وتبريرها بمبررات دينية بهدف الحصول على الدعم والتأييد الجماهيري (الحروب الصليبية أنموذجا).
وعادةً ما يستخدم أمراء الحروب في كل زمانٍ ومكان، وفي مختلف الحضارات، الحجج الواهية والكاذبة بهدف تضليل الرأي العام والتغرير على عامة الناس، وخصوصاً المتعصبين الدينيين الذين عطلوا عقولهم وساروا مثل النعاج التي لا عقل لها خلف علماء سخروا علمهم لخدمة السلطان وجعلوا من الدين مطية لتحقيق مآرب سياسية وأطماع سلطوية وتوسعية وأفتوا بالقتل والظلم وسفك الدماء لإرضاء غرور هذا السلطان أو ذاك.
وفي حقيقة الأمر، الدين يُعبِّر عن مرحلة سامية وراقية في وجدان الإنسان وفي تاريخ الحضارة الإنسانية، لأنه يقود إلى الرقي والحضارة والتعايش السلمي بين البشر، ولا يمكن لهكذا منهج رباني راق وسام أن يقود إلى السلبية والعدوانية. ومن يصدق هكذا ادعاءات من أي مذهبٍ كان ومن أي ديانةٍ كان، عليه أن يراجع نفسه وعقله الذي هو مسؤول عنه أمام الله تعالى، فكيف بمن اتبع منهج التقليد واكتفى بتقليد غيره، وسار خلف الآراء والاجتهادات البشرية بدون بصيرة ولا تفكر، ألا يعتبر ذلك تعطيلاً للعقل البشري، تعطيلاً للميزة الإلهية التي ميز الله تعالى بها الإنسان على غيره من المخلوقات. وكم أستغرب وأصاب بالدهشة عندما أرى المتعصبين الدينيين من مختلف الديانات وهم يعطلون عقولهم ويساقون كالنعاج خلف فتاوى وآراء واجتهادات بشرية تسوقهم لممارسة القتل والعنف والإرهاب وسفك الدماء والفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
فما لهذا أنزل الله تعالى الديانات السماوية، ولا لهذا أرسل الله تعالى رسله الكرام، وإنما أنزل الله تعالى رسالاته لأهداف سامية وعظيمة لتحقيق الصلاح والسعادة للبشر عن طريق التنافس الحضاري والتعارف الإيجابي والتعايش السلمي بين البشر. وبذلك، فإنه لا جدال بأن معظم الحروب التي قامت بين البشر هي حروب سياسية وتوسعية واستعمارية، باستثناء الحروب التي قادها الأنبياء والرسل عليهم السلام، والحروب التي قامت لرفع الظلم عن المظلومين، والحروب التي قامت لرفع الاضطهاد الديني ومنح المضطهدين حرية التدين. وبذلك، ليس من الحروب الدينية نشر الدين أو المذهب بالقوة والعنف والإكراه ، فقد قطع الشرع الاسلامي الشك باليقين في هذا المجال، قال تعالى (لكم دينكم ولي دين)، وليس من الحروب الدينية ممارسة العنف والبطش والتنكيل بالآخرين، قال تعالى (وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين)، وليس من الحروب الدينية ممارسة الظلم والجور والتعسف ضد الآخرين ، قال تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان)، وليس من الحروب الدينية التفجيرات والتدمير والتخريب سواء للحقوق الخاصة أو العامة ، قال تعالى (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)، وليس من الحروب الدينية الاعتداء على الآخرين ونهب أموالهم وممتلكاتهم ومصادرة حقوقهم وحرياتهم ، قال تعالى (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) ، وليس من الحروب الدينية قتل المدنيين والأطفال والنساء ، قال تعالى (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً)! وبذلك، فإن أي إنسان يمتلك عقلاً متوازناً ومفكراً ومتدبراً ومتحرراً من التعصبات الدينية والمذهبية والطائفية والمناطقية والحزبية ومسترشداً بالأحكام الشرعية الواردة في الآيات القرآنية يمكنه، ومن خلال دراسة وقراءة أسباب ودوافع ونتائج الحرب بحيادية وموضوعية، تحديد ماهية الحرب ونوعها؛ هل هي حرب دينية جهادية أم حرب دنيوية سياسية ذات أطماع سلطانية وتوسعية واستعمارية، وخصوصاً في وقتنا الحاضر الذي أصبح فيه بمقدور الإنسان متابعة كل الاحداث والمستجدات في كل مكان في العالم بكل سهولة بفضل التكنولوجيا العلمية المتطورة في كل مجالات الحياة، والتي تساهم في تدفق المعلومات والأخبار بكل يسر؛ وهو ما يجعل الإنسان يمتلك القدرة على إصدار الحكم المناسب بشأن تحديد ماهية الحروب والصراعات القائمة اليوم. ولكن، ورغم كل ذلك، لا يزال أمراء وتجار الحروب ورجال الدين الموالين للسلطة يعملون وبكل جهد من أجل تبرير حروبهم وتغطيتها بغطاء ديني، وذلك من خلال دغدغة عواطف الناس واستثارة مشاعرهم وخصوصاً المتعصبين منهم دينياً أو مذهبياً أو طائفياً عن طريق الإعلام الموجه بعناية فائقة، لأنهم يدركون جيداً بأنه عندما تتحرك العاطفة وتستثار المشاعر يتعطل العقل ويتوقف عن التفكير. وبذلك يسهل على أمراء وتجار الحروب قيادة وتوجيه الجماهير العاطفية والانفعالية كيفما يريدون، وصولاً إلى الحصول على دعمهم وتأييدهم لكل حروبهم على أساس أنها حروب دينية، بغض النظر عن ماهيتها ونوعها وأهدافها ومشروعيتها.