أهمية التوازن بين المادة والروح في مسيرة الحضارات البشرية

02:58 2023/03/28

عبر تاريخ البشر الطويل على كوكب الأرض، تمكنوا من إنشاء الكثير من الحضارات، وكان لكل حضارة خصوصياتها الفكرية والثقافية التي تتميز بها عن غيرها من الحضارات، وكانت العلاقات فيما بينها تقوم على التنافس. وللأسف الشديد كان ولا يزال التنافس السلبي هو السمة السائدة لتلك العلاقات، بينما كان التنافس الإيجابي فيما بينها يظهر في فترات تاريخية محدودة، وذلك نتيجة اعتناق قادة تلك الحضارات وأصحاب القرار فيها للثقافة المادية البحتة، والتي تدفع بهم للنزوع نحو استخدام الوسائل المادية كالقوة والمال والمصلحة في إدارة علاقاتهم مع الآخر، وإهمالهم للوسائل الروحية والأخلاقية والإنسانية. 
 
وهكذا وضع يترتب عليه اختلال التوازن بين الثقافة المادية والثقافة الأخلاقية. وبالفعل، وخلال فترات تاريخية مختلفة ظهرت حضارات ذات نزعة مادية وحضارات أخرى ذات نزعة روحية، وأي منهما لم تمتلك مقومات البقاء والديمومة، وذلك نتيجة إختلال التوازن بين الجوانب المادية والجوانب الأخلاقية.
 
فعندما تطغى المادة  على حساب الروح والأخلاق، تتحول الحياة إلى غابة البقاء فيها للأقوى، فينتشر الفساد والرذيلة ويسود الظلم والتظالم والعنف والصراعات، وهو ما يقود الحضارة إلى الانهيار.
 
وعندما يطغى الروح على حساب المادة، تتحول الحياة إلى دير للرهبنة وزاوية للتصوف، فيسود العجز وتزداد الفاقة ويظهر الجهل وتهيمن الخرافات والأساطير والكهانة، وهو ما يقود الحضارة إلى الضعف والتخلف والهوان والزوال. 
 
من أجل ذلك، جاء المنهج الإسلامي بالكثير من التشريعات التي تدعو للتوازن بين الماديات والروحانيات، بحيث لا تطغي أي منهما على الأخرى. ولم يتوقف المفكرون والمشرعون يوماً عن البحث والدراسة للوصول بالمجتمعات البشرية لحالة من التوازن المادي والروحي، كون ذلك هو الضمان الوحيد للحصول على الحضارة البشرية النموذجية والمثالية القابلة للتطور والحداثة والديمومة. وذلك ليس بالأمر الصعب، فكل ما يحتاج هو العمل على التوفيق بين الروحانيات والماديات وصولاً لحالة التوازن بينهما. 
 
لأنه ليس مقدرا على البشر أن يقعوا تحت طغيان المادة أو غلو الدين، فباستطاعتهم من خلال الالتزام بالتشريعات الدينية ذات الصلة وبالأفكار والنظريات البشرية العقلانية أن يكسروا هذا الجمود ويعيشوا في التوازن الذي يمكن أن ينعموا تحت ظلاله بالسعادة والرفاهية والاستقرار، وأن يشيدوا الحضارات القابلة للتطور والرقي والديمومة، وأن يتحرروا من ضغوط الماديات وسطوتها على حياتهم وتفكيرهم الذي يحرمهم من أشواق الروح ومتعة العبادة والراحة النفسية، وأن يتخلصوا من سطوة التطرف والتشدد الديني الذي يحرمهم من متع الحياة ونعيمها وجمالها وزينتها.