حسابات واشنطن في العمليات العسكرية ضد ميليشيا الحوثي
لم تكن الضربات العسكرية التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد مواقع حركة الحوثيين في خمس محافظات يمنية هى صنعاء والحديدة وتعز وصعدة وحجة، بداية من 12 يناير الجاري (2024)، مفاجِئة ليس للمراقبين فحسب وإنما أيضاً للمليشيا اليمنية وكل القوى المعنية بما يجري من تصعيد في البحر الأحمر.
فقد سبق تلك الضربات إعلانات أمريكية وبريطانية متكررة تفيد اقتراب موعد تنفيذها، بل يمكن القول إن الجولة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن في منطقة الشرق الأوسط وانتهت قبل يوم واحد من شن هذه الضربات، كان عنوانها الرئيسي هو الملف اليمني، رغم إلحاح وأهمية الملف الآخر الخاص باستمرار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة والتصعيد المتواصل بين إسرائيل والمليشيات الموالية لإيران في دول عربية مختلفة مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن.
وفي الواقع، فقد فتحت هذه الضربات، التي تجددت في اليوم التالي وقد تتواصل في الأيام المقبلة، الباب أمام مسارات متعددة سواء للتصعيد في البحر الأحمر، أو للصراع المفتوح بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من جهة وإيران وتلك المليشيات من جهة أخرى.
دلالات عديدة
تطرح هذه الضربات العسكرية الأمريكية والبريطانية ضد مليشيا "أنصار الله" الحوثية دلالات عديدة ترتبط بحسابات واشنطن إزاء الصراع "المفتوح" في منطقة الشرق الأوسط وموقع الأطراف المختلفة منه، ويتمثل أبرزها في:
ضربات الحد الأدنى: رغم أن هذه الهجمات قد تبدو للوهلة الأولى واسعة وقوية- 73 هجوماً في اليوم الأول- إلا أن التدقيق فيما جرى بعد ذلك يكشف أن واشنطن حرصت على تبني سياسة "ضربات الحد الأدنى". وقد كان لافتاً، على سبيل المثال، أن الخسائر البشرية في صفوف مليشيا "أنصار الله" كانت محدودة بدرجة كبيرة، حيث أعلن عن مقتل 5 عناصر وإصابة 6 آخرين.هذه الخسائر المحدودة مقارنة بالعدد الكبير للهجمات التي تم شنها توحي بأن المليشيا الحوثية كانت مستعدة لتلك الضربات بحيث سارعت إلى إجراء عملية إعادة انتشار لعناصرها، وحماية ما يمكن إخفاءه من قدراتها العسكرية. وهنا، فإنه لا يمكن استبعاد أن تكون إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قد حرصت على توجيه رسائل غير مباشرة إلى المليشيا بقرب تنفيذ الضربات بحيث تتفادى وقوع خسائر بشرية كبيرة في صفوف الأخيرة.وهنا، فإن ذلك يعني أن الإدارة الأمريكية حرصت على عدم استفزاز المليشيا بأقصى قدر ممكن لكى لا تدفعها إلى الرد، أو بمعنى أدق سعت إلى عدم وضع المليشيا أمام خيار واحد هو الرد على تلك العمليات. فالهدف الأساسي بالنسبة لواشنطن يكمن في ردع المليشيا ومنعها من مواصلة الهجمات التي تشنها في البحر الأحمر، دون أن تضطر إلى مواصلة تلك الضربات في المرحلة القادمة، خاصة أنها تستعد حالياً لإجراء الانتخابات الرئاسية في 5 نوفمبر القادم.
استهداف المصالح الأمريكية:
كان لافتاً أن الفارق الزمني بين الضربات العسكرية التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد مواقع مليشيا الحوثي في اليمن، في 12 يناير الجاري، وبين أول هجوم نفذته الأخيرة في البحر الأحمر واحتجزت فيه السفينة "جلاكسي ليدر" وطاقمها في 19 نوفمبر الماضي، كان أكثر من 50 يوماً.
هنا، فإن ذلك يوحي بأن الادعاءات التي تسوقها إدارة الرئيس جو بايدن لتبرير الضربات العسكرية الأخيرة لا تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض، والتي تشير إلى أن واشنطن لم تتحرك عسكرياً ضد المليشيا الحوثية إلا بعد أن بدأت الأخيرة في استهداف مصالح أمريكية نوعية في المنطقة.
وتبدو الحادثة التي وقعت في 31 ديسمبر الماضي مؤشراً على ذلك. إذ لم تستخدم واشنطن الخيار العسكري ضد المليشيا الحوثية إلا بعد أن وجّهت زوارق تابعة للأخيرة نيرانها لمروحيات أمريكية كانت تحاول الاستجابة لنداء استغاثة وجهته سفينة تابعة لشركة "ميرسك" تعرضت لهجوم من جانب تلك الزوارق. وقد حرصت وزارة الدفاع الأمريكية على تبرير استخدام الخيار العسكري بوضعه في إطار "الدفاع عن النفس".
هذا الإطار تحديداً هو الذي يفسر التحرك العسكري الأخير أيضاً الذي قامت به الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
إذ أنه يندرج أيضاً تحت هذا البند، خاصة أن هذا التحرك جاء بعد يومين فقط من قيام المليشيا الحوثية بشن هجوم وصفته الدولتان بأنه "معقد"، بعد أن استخدمت فيه المليشيا 18 طائرة من دون طيار وصاروخين من نوع كروز وصاروخ باليستي.
وبالتدقيق في ردود فعل الولايات المتحدة الأمريكية إزاء التطورات التي تشهدها الأزمات الإقليمية الأخرى يتضح أن الأخيرة تتبنى النهج نفسه، فقد قامت القوات الأمريكية بشن هجوم عسكري ضد مقر تابع لمليشيا "النجباء" العراقية، في 4 يناير الجاري، أسفر عن مقتل القيادي البارز فيها مشتاق السعيدي "أبو تقوى" وعناصر أخرى، حيث أكدت وزارة الدفاع الأمريكية أن السعيدي كان ضالعاً في هجمات تعرضت لها القواعد الأمريكية في العراق وسوريا مؤخراً.
ذلك في مجمله لا يعني أن التحرك العسكري الأمريكي لم يكن استجابة للتهديدات التي تعرضت لها حركة التجارة العالمية عبر البحر الأحمر، بعد أن أجبرت الهجمات الحوثية أكثر من 2000 سفينة على تجنب المرور عبر مضيق باب المندب والتحول إلى مسارات أخرى حسب تصريحات المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن ليندا توماس جرينفيلد، وإنما يعني أن ذلك لم يكن السبب الوحيد، وربما لم يكن السبب الأساسي في هذا التحرك.
تنسيق محتمل مع إيران: للوهلة الأولى، قد لا يتوافق ذلك مع المعطيات الموجودة على الأرض، خاصة بعد أن أدانت إيران الضربات العسكرية الأمريكية والبريطانية واعتبرتها مخالفة للقانون الدولي وانتهاكاً للسيادة اليمنية. لكن بالإمعان في الأمر يتضح أن هناك مؤشرات توحي بأن اتصالات جرت ورسائل وجهت كان من شأنها منع تصعيد حدة التوتر مع إيران.
فقد كان لافتاً أن إيران سارعت إلى سحب سفينة "بهشاد" الاستخباراتية من البحر الأحمر في اليوم نفسه الذي بدأت فيه الضربات، وهى السفينة التي أشارت تقارير عديدة إلى أنها كانت تمد مليشيا الحوثي بالمعلومات الخاصة بهوية ووجهة السفن التي تمر عبر مضيق باب المندب.
كما أن الإعلام الإيراني حرص، بالتوازي مع الجولة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن في المنطقة قبيل الهجمات، على الإشارة إلى أن رسائل أمريكية عديدة وصلت إلى طهران.
وقد أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن ذلك فعلاً، في 13 يناير الجاري، عندما قال أن "الولايات المتحدة سلمت رسالة بشكل خاص إلى إيران بشأن جماعة الحوثي".
كما أن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2722 الذي صدر قبيل الهجمات، وتحديداً في 10 يناير الجاري، وأدان الهجمات الحوثية وطالب المليشيا بالتوقف عنها، أشار بشكل غير مباشر إلى إيران كطرف داعم للأخيرة.
هنا، فإن ذلك يضفي وجاهة خاصة على المقاربة التي تتبناها الولايات المتحدة الأمريكية إزاء التصعيد الحالي في البحر الأحمر. إذ أن واشنطن ترغب عبر تلك الضربات في ممارسة ضغوط على حركة الحوثيين لمنعها من مواصلة الهجمات في البحر الأحمر، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تجنب توسيع نطاق التصعيد الحالي سواء بقيام الأخيرة بالرد على تلك الضربات- وهو احتمال لا يمكن استبعاده في ضوء خبرة تعاملها مع أحداث مماثلة وفي ضوء إطلاقها صاروخاً باليستياً باتجاه سفينة تجارية بعد الضربة الأولى- أو عبر استفزاز إيران ودفعها إلى الإيعاز لوكلائها بالرد على تلك الضربات ضد المصالح الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية سواء في البحر الأحمر أو في أى منطقة أخرى يتواجد فيها هؤلاء الوكلاء أو تستطيع قدراتهم العسكرية أن تصل إليها.
متغيران رئيسيان
على ضوء ذلك، يمكن القول إن مدى استمرار التصعيد العسكري الأمريكي والبريطاني في اليمن حالياً سوف يعتمد على متغيرين أساسيين: أولهما، رد الفعل المتوقع من جانب المليشيا الحوثية. فبناء على ذلك سوف تتحرك واشنطن ولندن. وهنا، فإن تصريحات القيادات الرئيسية في المليشيا توحي بأن الأخيرة سوف تسعى إلى رفع كلفة هذه العمليات عبر مواصلة هجماتها في البحر الأحمر.
وثانيهما، حسابات إيران إزاء امتداد التصعيد إلى اليمن، حيث أنها ما زالت حتى الآن حريصة على ضبط حدود انخراط وكلائها في التصعيد ضد الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وهو حرص يرتبط بعدم رغبتها في توسيع نطاق التصعيد الحالي أو الانخراط فيه بشكل مباشر.
لكن استمرار الهجمات العسكرية التي تشنها إسرائيل ضد قياداتها في مناطق نفوذها، فضلاً عن احتمال استئناف الأخيرة عملياتها الأمنية والاستخباراتية داخل حدودها لاستهداف المنشآت النووية والعسكرية، إلى جانب تصاعد حدة الضغوط الأمريكية على وكلائها، كل ذلك قد يكون كفيلاً بحدوث تغيير في تلك الحسابات، خاصة أن إيران ووكلائها يدركون أن الولايات المتحدة الأمريكية قد لا يكون لديها خيارات كثيرة في المرحلة الحالية، لاسيما مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سوف تجرى في 5 نوفمبر القادم.
*خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية