الوقت بين ضياع المسؤولية ومفهوم الجريمة

قبل 14 ساعة و 44 دقيقة

يتناول هذا المقال بعدًا مهمًا من أبعاد القصور الإداري في اليمن، وهو إهدار الوقت والإخلال بالواجبات الوظيفية من قبل بعض المسؤولين والموظفين، والذي يُعد في جوهره جريمة إدارية تُفرغ العمل العام من مضمونه، رغم غياب الاعتراف القانوني به كجريمة.

يقارن المقال بين واقع الالتزام بالوقت في الدول المتقدمة والدول العربية، مسلطًا الضوء على الآثار الاجتماعية والتنموية الناتجة عن غياب ثقافة المسؤولية، ومقدمًا دعوة لإعادة تعريف الجريمة إدارياً وأخلاقيًا في سياق الإصلاح المؤسسي، مدعومة بدليل شرعي من القرآن ونص قانوني.

تُعرّف الجريمة في الإطار القانوني بأنها كل فعل أو امتناع يعاقب عليه القانون لأنه يمس مصلحة عامة أو يهدد نظام المجتمع. غير أن هذا التعريف غالبًا ما يُفهم بمفهومه التقليدي الضيق، فيُحصر في الجرائم الجنائية فقط كالقَتل والسرقة، بينما تُغفل جرائم لا تقل خطورة، مثل التقصير في المسؤولية والإخلال بالواجب الإداري، والتي تشكل اليوم أحد أبرز معوقات التنمية في اليمن.

تغيب ثقافة احترام الوقت في العديد من المرافق الحكومية اليمنية، حيث يتأخر المسؤولون عن الحضور، ويتغيب القضاة عن جلساتهم رغم تحديد المواعيد، وتُعطَّل مصالح المواطنين دون محاسبة. هذا الإهمال الذي يُمارس بشكل اعتيادي لا يُعد جريمة في نظر القانون اليمني، لكنه في الحقيقة جريمة وظيفية وأخلاقية تنعكس آثارها مباشرة على الأمن الإداري والاستقرار المجتمعي.

وقد أشار القرآن الكريم إلى خطورة خيانة الأمانة والتقصير في أداء المهام، بقوله تعالى:
"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا"-(سورة النساء، الآية 58)- فالأمانة هنا لا تقتصر على الأموال فقط، بل تشمل كل مسؤولية يُكلف بها الإنسان، وعلى رأسها الوظيفة العامة.

أما من الناحية القانونية، فإن المادة (120) من قانون الجرائم والعقوبات اليمني رقم (12) لسنة 1994 تنص على أن: “يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة أو بالغرامة، كل موظف عام أهمل في أداء واجبات وظيفته أو قصر في أدائها ترتب على ذلك ضرر جسيم بمصلحة عامة أو حقوق فردية.”
وهذا يثبت أن التقصير الوظيفي الذي يؤدي إلى تعطيل مصالح الناس يُعد جريمة قانونية أيضًا، لكن ضعف تطبيق النص القانوني هو ما يجعلها مستمرة دون رادع.

في الدول المتقدمة، يُعتبر الوقت عنصرًا مقدسًا، وتُبنى المؤسسات على مبدأ الالتزام الصارم بالمواعيد والمهام. التأخر أو التهاون في أداء العمل يؤدي إلى المحاسبة الفورية، باعتباره إخلالًا بالنظام العام. أما في اليمن، فقد أصبح التساهل مع التأخير عادة، وغياب المساءلة قاعدة، ما أدى إلى ترسيخ ثقافة الفوضى واللامسؤولية.

إن الموظف الذي لا يؤدي واجبه، والقاضي الذي لا يحضر جلساته، والمدير العام الذي يتغيب دون مبرر، كلهم يشاركون في جريمة تعطيل المرافق العامة وتخريب الثقة بين المواطن والدولة. وإن لم يعترف القانون بهذه الأفعال كجرائم في الواقع العملي، فإن الضمير الجمعي والدليل الشرعي يدركان أنها خيانة للأمانة.

لقد أدركت الشعوب الناهضة أن تقدمها لا يرتبط بالموارد فقط، بل بثقافة الانضباط واحترام الوقت. والمفارقة أن أجدادنا – رغم محدودية الوسائل – كانوا أكثر التزامًا وإنتاجًا، حيث كانوا ينهضون باكرًا، ويؤدون أعمالهم بجد، وكان الطابور المدرسي يبدأ في السابعة صباحًا بحضور كامل للهيئة التدريسية.

إن مواجهة هذا الواقع تبدأ من إعادة الاعتراف بالجريمة الإدارية كثقافة ضارة يجب محاسبتها، وغرس قيم الالتزام في نفوس العاملين في الشأن العام، لأن التنمية لا تتحقق إلا في بيئة تحترم الوقت وتُعلي من شأن المسؤولية.

فالوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك.. ومن لا يحترم الوقت، لا يمكن أن يبني دولة ولا يصنع نهضة.