المذاهب الفقهية .. صناعة بشرية ..!!

09:56 2024/01/13

في حقيقة الأمر تشتمل الديانات السماوية على مجموعات متعددة من الشرائع ، قسم منها شرائع ثابتة لا مجال فيها للاجتهاد البشري كونها خارج مجال قدراته العقلية وهي الشرائع المتعلقة بالأمور الغيبية ما وراء الطبيعة كالإيمان بالله تعالى ، وقسم منها شرائع متغيرة وباب الاجتهاد فيها مفتوح كونها تقع في مجال قدرات العقل البشري وهي الشرائع المتعلقة بعالم الشهادة وخصوصاً المتعلقة منها بالجانب الفكري ، وهي عبارة عن آراء واجتهادات الفقهاء أو رجال الدين والمشرعين المجتهدين حول المسائل والقضايا التي تتعلق بشئون الناس الحياتيه المتغيرة بتغير الزمان والمكان والظروف والبيئة والدوافع والأسباب ، وإلى هنا والأمر مباح ومستحب ولا مشكلة في ذلك ، كون ذلك يمثل استجابة لطبيعة الحياة المتقلبة والمتغيرة ، ولمتطلبات الإنسان وقضاياه المختلفة والمتعددة والمتغيرة ، بل إن ذلك الفعل جزء من العبادة فإعمال الفكر والتفكير والاجتهاد والتفقه في الدين عبادة من العبادات ..!!

والمشكلة بدأت من تلك اللحظة التي تحولت فيها تلك الاجتهادات والأفكار والآراء إلى جزء من الدين وصنعت حولها هالة من التقديس والتعظيم ، ليتحول الاجتهاد والفكر البشري إلى دين يتدين به البعض ، نتيجة تعصبهم لهذا الإمام أو ذاك ، وهو ما ترتب عليه ظهور وبروز المذاهب الفقهية ، وقد ساعد على ذلك أنظمة الحكم السياسية التي كانت تدعم الآراء والاجتهادات المتوافقة مع سياساتها ومصالحها ، لتجعل منها مذهباً دينياً تعتمده في سن تشريعاتها وإصدار أحكامها وفرضها على الرعية كفكر واحد ورأي واحد ، ليفقد الاجتهاد الفكري الديني حريته واستقلاليته ويصبح أداة من أدوات السياسة ..!!

وبدل أن يكون الاجتهاد في مصلحة الدين ومصلحة المجتمع ، وبدل أن تكون تلك الاجتهادات مصدر للإثراء الفقهي والفكري واستجابة لمتطلبات الحياة المتغيرة والمتبدلة ، تحولت إلى أداة بيد السلطة تقوم من خلالها بفرض الفكر الواحد والرأي الواحد وتمنع من خلالها التنوع والتعدد الفكري والفقهي ، ولتتحول المذاهب الفقهية إلى وسيلة لصناعة الكراهية والتباعد والخلاف بين أتباع الدين الواحد ، بل لقد وصل الأمر في بعض المراحل التاريخية إلى حد الاقتتال وسفك الدماء بين أتباع الدين الواحد تعصباً وانتصاراً لمذاهبهم ، لتتحول المذاهب إلى دين يتدين به أتباعها ويتشددون لها ويتشيعون لها ويقاتلون في سبيلها رغم أنها في حقيقة الأمر ليست أكثر من أفكار وآراء بشرية ، وهذه هي التفرقة الدينية التي حذر الله تعالى المسلمين منها ، قال تعالى :- (( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء )) ..!!

والشاهد مما سبق بأنه لا مشكلة أبداً في تعدد الآراء والاجتهادات حول أي مسأله فقهيه أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية ، متعلقة بحياة الإنسان المتغيرة والمتبدلة بتغير الزمان والمكان ، بل إنها ظاهرة صحية تؤكد على مرونة التشريعات الدينية وأنها صالحة لكل زمان ومكان ، ولكن المشكلة والكارثة تكمن في التعصب والتشدد لبعض تلك الاجتهادات والافكار وصولاً إلى تقديسها وتعظيمها ، ومن هنا حدث الخلط بين الآيات والأحكام والتشريعات الإلهية المقدسة وبين الاجتهادات والافكار الدينية البشرية ، وعندما يتم إزالة الخلط بين المقدس وغير المقدس ، عندها سوف تنقشع الغمة عن المسلمين ، وتنتهي معظم خلافاتهم وصراعاتهم ، وعندها سوف يدركوا بأن المجال متاح أمامهم للأخذ بأي من الاجتهادات الفقهية كون أياً منها لا يحمل صفة القداسة والإلزام ، كونها ليست أكثر من اجتهادات بشرية ، ولا داعي أبداً للتعصب لها ، فالمسلم ليس ملزم بأخذ أراء واجتهادات وفتاوى مجتهد بعينه دون غيره ..!!