الدعوات الطائفية .. تعميق لجراحات وخلافات الأمة .

04:51 2024/04/28

بالعقل والوعي والعلم والثقافة تجاوزت كل الأمم والشعوب خلافاتها وصراعاتها الدينية والمذهبية والطائفية ، وانتقلت لمراحل جديدة في حياتها وعلاقاتها وتفاعلاتها وحاضرها ، حافلة بالإيجابية والتطور والتقدم والرفاهية ، ويممت وجها نحو المستقبل الأفضل لجميع أفرادها ، باستثناء الشعوب العربية والاسلامية الغارقة في مستنقع خلافاتها وصراعاتها الطائفية والمذهبية التي تشدها نحو الماضي وتمنعها من التطلع نحو المستقبل ، وتحول دون استشراقها لمستقبل أكثر إشراقًا وإزدهارًا، وتجعلها غارقة في استذكار واستدعاء سلبيات وخلافات القرون الغابرة ، ولا يفتأ أصحاب وأرباب الفكر الطائفي والمذهبي يستذكرون كل الخلافات وينكئون جراحاتها في كل مواقفهم وخطاباتهم ، كل ذلك يترتب عليه تجديد الخلافات وتعميقها وتوسيع الهوة بين أبناء الأمة ، بدلا من تجاوزها وإغلاق ملفاتها ، وسبر أغوارها ..

ولن نبالغ إذا قلنا بأن استدعاء الخلافات الطائفية والمذهبية هو السبب الرئيسي لما تعيشه الأمة العربية والاسلامية من تخلف وتراجع حضاري ، وهو المحرك الأول لكل الخلافات والصراعات التي تطحن مقدراتها وتسحق امكانياتها وتحطم آمالها وطموحاتها . وبذلك، فإن استدعاء تلك الخلافات والتذكير بها والتخندق خلف أسوارها لا يخدم الأمة بأي حال من الأحوال بقدر إضرارها بكل الدعوات الساعية إلى ردم هوة الخلافات وتمديد جسور التقارب بين الأخوة في الدين ، كون استدعاء تلك الخلافات والحديث عنها والتركيز عليها عند كل شاردة و واردة هو ليس أكثر من دعوات صريحة لتجديد تلك الخلافات وتجذيرها في عقول الأجيال في الحاضر والمستقبل ، كل ذلك رغم أن ما حدث بين المسلمين من خلافات بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ليست أكثر من خلافات سياسية ، ومثل هذه الخلافات واردة في حياة الأمم والحضارات البشرية ، فالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ليسوا ملائكة فهم بشر والخلاف والاختلاف من صفات البشر ، فما حدث هو أمر طبيعي خلاف سياسي بين أفراد الدولة الاسلامية الناشئة بعد رحيل قائدها ، خلاف حول كيفية انتقال السلطة بطريقة سلمية ، فلا بد لهذه الدولة من قيادة جديدة تدير أمورها وتتولى إدارة شؤون الحكم فيها ، وأياً تكن اعتراضات البعض حول طريقة وآلية وشخصيات ذلك الإنتقال ، إلا أنه كان انتقال سلمي ومدني ناجح وحضاري بكل المقاييس السياسية ..

لكن ما حدث بعد ذلك من تضخيم لتلك الخلافات وتهويل من شأنها ، وإيقاف عجلة التاريخ عند سقيفة بني ساعدة هو لأهداف وغايات سياسية وسلطوية ، الهدف منها إثارة الخلافات الطائفية والمذهبية بين أبناء الدين الواحد ، وتقسيمهم إلى فرق وطوائف متصارعة ومتناحرة ، واستدعاء واستذكار تلك الأحداث وتصويرها خارج سياقاتها السياسية هو تجديد لها وحرص على استمراريتها ، والرأي السياسي الموضوعي والعقلاني الصائب حول ذلك الموقف هو أنه موقف استدعته الضرورة السياسية والحاجة الملحة ، وبدون شك بأن الإرادة الإلهية كانت حاضرة في ذلك الموقف التاريخي الذي توقف عليه مصير ومستقبل الاسلام والمسلمين ، ولو فشل ذلك الاجتماع لا سمح الله لتطورت الاحداث نحو المزيد من السلبية والخلاف والانقسام والصراع ..

نعم لن نبالغ إذا قلنا بأن النتائج التي خرج بها اجتماع سقيفة بني ساعدة ، قد جاءت بأفضل الحلول المتاحة والممكنة في تلك اللحظة التاريخية والمفصلية والحاسمة في تاريخ الأمة العربية والاسلامية ، فقد انقذت قرارات ذلك الاجتماع السياسي الطارئ الدولة الاسلامية الفتية من الدخول في متاهات الخلافات والصراعات والانقسامات الداخلية ، التي تطورت وتبلورت فيما بعد وترتب عليها انقسام الأمة إلى مذاهب وطوائف وفرق متناحرة ومتصارعة ..

نعم إن ذلك الموقف التاريخي الشجاع الذي خرج به اجتماع سقيفة بني ساعدة الطارئ ، هو من قطع الطريق أمام الخلافات بين المسلمين في ذلك الوقت الحرج ، وأغلق الباب أمامها ولو مؤقتاً ، حتى اشتد عود الدولة الاسلامية الناشئة ، وثبتت جذورها في أعماق الأرض ، واتسعت رقعتها الجغرافية وعم خيرها العباد والبلاد ، فلم تستطع تلك الخلافات والدعوات الطائفية والمذهبية والعنصرية بعد ذلك من القضاء عليها ، وانحصر تأثيرها في حجب نورها وإضعاف شوكتها ووقف توسعها وتراجعها الحضاري ، وصناعة الخلافات والانفسامات بين أفرادها ، وتحويلها من دولة قوية موحدة ، إلى دويلات وإمارات متصارعة ومنقسمة على بعضها وضد بعضها ، بسبب الانقسامات والخلافات الفكرية والمذهبية والطائفية التي حولت الخلاف السياسي بين الصحابة رضوان الله عليهم إلى خلافات عقائدية ومذهبية وطائفية ، وجعلت المسلم عدوا لأخيه المسلم .

وخلاصة القول، أن التعصب الطائفي لا يمكن أن يعود بالخير على أي أمة حل فيها ، فكل ما يأتي منه هو الشر والضعف والهوان والانقسام والصراع والكراهية ، والخيار الوحيد أمام الأمة العربية والاسلامية لاستعادة دورها الريادي في مسيرة الحضارة البشرية ، هو بإغلاق كل الملفات الشائكة والخلافات العالقة ، والتطلع لمستقبل أكثر توافقاً وتقارباً وتصالحاً ، بعيداً عن المشاحنات والمناكفات والدعوات الطائفية والمذهبية .