سبتمبر حدث خالدا وثورة حقيقية

08:13 2022/09/25

تعد ثورة 26 من سبتمبر من أنبل الثورات في التاريخ الحديث وأكثرها أهمية ونجاعة، قياساً لما كانت عليه أوضاع البلاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وما تطورت إليه جميع جوانب الحياة لاحقًا.
ربما بقي القليل جداً اليوم من الجيل السابق بعمر أدرك من خلاله تلك المرحلة البائسة، ومنهم رجال أدب وعلم ونضال، خاضوا تجارب المعتقلات وتعرضوا للتعذيب، ومنهم من نجا لحكمة إلهية من مقصلة الإعدام.
لقد كانت هناك ألف ألف قضية وآلاف المشاكل والمسببات، والكثير من البديهيات التي استدعت أحرار اليمن تفجير هذه الثورة. لذا استشعر ثوار فجر ٢٦ سبتمبر حجم المأساة حين رأوا أسرة حميد الدين جاثمة على صدور الناس، مثل كابوس يكاد ينتزع الأرواح ولا يبقي سوى أجساد عارية وبطون جائعة. فلم يكن أمامهم إلا البدء بترتيب الأدوات التي من خلالها اخترقوا هذا الجدار، بعد أن اعتقدت الإمامة أنها فوق كل الأفكار والأقدار.
اليوم، هناك من يستكثر علينا الاحتفال بالذكرى ال60 للثورة السبتمبرية الخالدة، بحجة أنها ثورة الآباء والأجداد وأنها لا تعنينا لا من بعيد ولا من قريب، وأننا لم نشارك فيها ولم نكن جزءًا من أحداثها، متناسيا أننا أجيال تلك الثورة التي نعمنا بخيراتها ومنجزاتها العظيمة ومكاسبها في مختلف المجالات السياسية والتنموية والثقافية والاجتماعية.
هؤلاء الذين يقللون من عظمة تلك الإنجازات وما تحقق من أهداف الثورة الخالدة بعد ستة عقود، يعللون ذلك بأن النظام الأمامي عاد بصورة أسوأ مما كان قبل الثورة.
فوق ذلك نجد أن كل فصيل سياسي بدأ يصطنع له أياماً ومناسبات وأعياداً يحتفل بها ويتنكر للثورة المجيدة، فقط الهدف منها الإجهاز على ما تبقى من تلك المنجزات الناصعة ومحو ذاكرة الأجيال من ألق وشعاع سبتمبر، وتصفية حسابات مع الثورة والجمهورية، وما أنجزه الوطن في ظل قيادة حزب المؤتمر الشعبي العام طيلة العقود الماضية، بصورة مخجلة تنم عن جهل واضطراب فكري بسبب رواسب علقت  وقراءات خاطئة.
هؤلاء تناسوا وأغفلوا أن ثورة سبتمبر امتداد لنضالات الحركة الوطنية اليمنية، وأن مهمة تطبيق أهداف مبادئ هذه الحركة مسؤولية جميع أبناء اليمن المؤمنين بهذه الثورة التي حررت اليمنيين من الطغيان والظلم والفقر والجهل والكهنوت.
صحيح أنه لا توجد ثورة تستطيع أن تنجز جميع شعاراتها وأهدافها، فالثورات في التاريخ تتعاطى مع واقع وتحديات، تنتصر هنا وتنكسر هناك، فهي مرحلة تغيير ترتبط برؤية والرؤى لا يمكن تجسيدها كاملة على أرض الواقع، وهناك أمثلة عديدة كالثورة البلشفية في روسيا وقيام الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، نجحت في أمور وأخفقت في أخرى، مثلها ثورة ماو في الصين، وفي وطننا العربي ثورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في مصر عام 1952 والعراق وسوريا وليبيا، وحركات إصلاحية أخرى أقل من ثورة، مثلما جرى في المغرب على يد الملك محمد الخامس الذي يلقبه المغاربة ببطل الاستقلال بعد عودته من منفاه الإجباري في مدغشقر. كذلك ما قام به الرئيس التونسي الراحل بورقيية من نيل الاستقلال والإصلاحات المجتمعية وتعزيز مكانة المرأة.
وسط هذا المناخ العربي والدولي، ولدت ثورة ٢٦ سبتمبر؛ فكيف يمكن أن تكون أفضل من تلك الثورات والحركات؟ فالمحيط الإقليمي والصراعات كان لها بلا شك تأثير على الوضع اليمني، إلا إذا تم القياس بما كان عليه حال اليمن وشعبها الذي كان يعيش في مجاهل التاريخ أو خارج العصر بقرون فريسة لثالوث الفقر والجهل والمرض، مضافاً إليها العزلة التي جعلت من اليمن شيئاً غير معلوم. فبهذا فإن ثورة 26 سبتمبر الخالده ستتفوق على غيرها من الثورات بما حققته من الانعتاق والانتقال باليمن وشعبها بما يوازي قرونا في حسابات الزمن والتنمية.
صحيح جداً أن تغييرات حصلت في قمة السلطة اليمنية منذ سبتمبر، ولكن الثورة تواصلت بزخمها في عهد الرئيس الراحل علي عبد الله صالح رحمه الله، ومنذ العام ٧٨م تحقق استقرارا سياسيا نسبيا في قمة السلطة، انتهت معه ظاهرة الانقلابات والاغتيالات، واتجه اليمن نحو التنمية في كل المجالات، رغم شحة الموارد والإمكانات. فقد شهد كل منصف أن عهد الرئيس علي صالح مثل فترة التغير والبناء في التعليم والطرقات والصحة والمواصلات والبعثات وتكريس صورة الوطن بشكل لائق على الساحة الدولية والعربية.
من الطبيعي أن تواجه الثورة تحديات وصعاباً وتآمراً واختلالات، واليمن جزء من إقليم يعج بالصراع والتناحر ولم تكن اليمن سويسرا ولا كندا، ولكن مقارنة بالوضع في عهد حميد الدين لا يمكن لأي منصف أن يضعهما في كفتي ميزان متساويتين.
أما إعادة تحقيق الوحدة مع الإخوة في الشطر الجنوبي من الوطن فقد تحققت وأصبحت واقعاً معاشاً، رغم كل الإشكالات التي واجهتها، فكانت هدفاً نبيلاً أجمع عليه عموم الشعب اليمني من الشمال والجنوب.
هناك الكثير من التساؤلات التعجيزية التي تحمل معها مساحة من التناقض، وهناك من يحاول أن يقلل من قدرات الجيش الوطني المنجز القوي الذي يحسب للرئيس صالح وعهده، جيشاً وطنياً قوياً مجهزاً بالسلاح ولم يؤذ شعبه أبداً.
أما مسألة أين ذهب هذا الجيش وكيف ترك رئيسه وحيدا في بيته، فالرئيس كان خارج الحكم ومجرد زعيم حزب سياسي. والمسؤولية يتحملها الذين تسلموا الحكم بعده في ظل مبادرة خليجية ودعم دولي. لم يكن عهد الرئيس الصالح وردياً، لكنه كان الأفضل والأنصع في تاريخ اليمن الحديث، ولا يمكن فصل اليمن عن محيطها بحيث بقيت ولا زالت تؤثر وتتأثر به، وهذه طبيعة السياسة.
فماذا تقول عما جري في مصر وسيطرة تيار الإسلام السياسي على دول عدة بفعل غض الطرف من قبل قوى دولية وظروف معروفة أدت إلى انتكاسة اليمن؟!
نتذكر جيداً أن الرئيس صالح كان طلب أكثر من مرة التنحي، ولكن القيادات السياسية في البلد هي من طلبة التجديد لعهده تلك الفترات، وعن طريق تصويت وقبول شعبي واضح، سعياً وراء الاستقرار واستمرار التنمية.
منجزات ثورة سبتمبر وما تلاها خالدة، وشاهد عيان لا يكذب على ما حدث من متغيرات جذرية في كافة المجالات؛ فكان هناك مساحة للحريات وتداول السلطة في الحكومة شملت قيادات من كل أطياف الشعب، وتعززت حقوق الإنسان فلم يسجن يمنيا بسبب رأيه أو معتقده. وكانت هناك صحافة تنتقد، وكانت هناك مشاركة واسعة في الحكم، وكانت هناك محاكم ونيابات واضحة وأطر وقوانين ومرجعيات تضمن حق الجميع. ومثلما قال عجوز يمني قبل سنوات وبعد أن رأى العجب العجاب من خلائف بيت حميد الدين وجرائم الحوثي:
رُب يوم شكوت منه ولما
صرتُ في غيره بكيت عليهِ