الحوثي والقطيع... أساطير كبيرة لعقول صغيرة
تتعمدُ الجماعاتُ والأيديولوجيات صناعة أفكار كبيرة، لتطلعاتٍ كبرى، وذلك من أجل استيعاب القدر الأكبر من القطيعِ المتحلق حولَ هذه الأفكار الحالمة في عوالم "اليوتوبيا"؛ لأنَّ الهدفَ كلما كان كبيرًا وساميًا كلما لاقى العديدَ من الأتباع حوله، وكلما تفانى الأتباعُ أيضا في التضحية من أجله.
الأمرُ هنا متعلقٌ بالإيمان القلبي، لا بالحِجَاج العقلي، والعاطفةُ غلابةٌ على العقلِ في عالمِ القطيع والأتباع. ليس هناك قطيعٌ عاقل، هناك فقط قطيع مؤمن.
والعجيب أنه قد يكون بين هذا القطيع أذكياء، وذو قدراتٍ عقلية كبيرة؛ لكنهم معاقين وكسيحين أمام عاطفتهم، وأمام غرائزهم أيضا.
نعم.. نجدُ أساتذةَ الرياضيّات والفيزياء والهندسة والآداب واللغات، من الحاصلين على درجة الأستاذية في تخصُّصَاتهم العلميّة يتركونَ مناهجَ البحثِ العلمي، ومنطق الحِجَاجِ العقلي الذي استخدموه في بحوثاتهم العلمية جانبًا في لحظة من اللحظات، ثم يولولونَ في زاويةٍ حُسينيةٍ على دم الحُسين، أو على ظلم فاطمة حد توهُّمِهم..! كما نجدُ أيضًا بعضًا من هؤلاء، من الهندوس ممن يغادرُ مكتبه الفخمَ أو مختبرَه العلميَّ، لينحنيَ أمامَ البقرة، معتقدًا فيها الضر والنفع.! وذات الشَّأن أيضًا مع فكرة الخلاص المسيحي وعودة يسوع، أو مع فكرة الهيكل المزعوم واستعادة مملكة الرب في أرضه، أو مع أتباع بوذا..! ومع أصحابِ فكرة الإمامة والخلافة على حدٍ سواء..!
إنها سيكولوجيا المعتقدات التي تتطلبُ قلبًا للإيمان بها، لا عقلا لمناقشتها، فمع المعتقداتِ تعاملْ بقلبك وضع عقلك جانبا؛ لأنه متى ما اتجهت الأيديولوجيات إلى العقلنة قل توحشها، وقل أتباعها، ومن هنا تكتسب المعتقدات القوة من هؤلاء الأتباع "القطيع". وكلما كانت المعتقدات أكثر رسوخا في النفوس قل التسامح بشأنها وزاد العنف؛ لهذا تجد القاتل صاحب الأيديولوجيا الصلبة أكثر راحة نفسيّة كلما حصد سيفُه أو بندقيته الأكثر من الرؤوس. فكل ما يفعله هو من تعاليم الرب، ومقابل ذلك تنتظره الحور والغلمان والخمر وكل ما يحلم به وما لا يحلم. لقد كان رودلف هس ــ وهو الرجل الثاني في الحزب النازي بعد هتلر ــ يقول للشباب حين يرددون القسم النازي: "لا تبحثوا عن أدولف هتلر بعقولكم، ستجدوه في قلوبكم".
ولهذا قال روبسبير: "إن الله يريدُ أن تُطرح الرأفة والإنسانية جانبًا عند الجهاد في سبيله". وفي الجماعات المسيحيّة كما في الجماعات الإسلامية، كان الكاثوليكي في فرنسا يتلذذ بصوت الدم حين يذبح أخاه البروتستانتي.
إنَّ فكرة أبناء الله وأحباؤه، وفكرة عودة يسوع، وفكرة أبناء رسول الله والمهدي المنتظر والإمامة، وأيضا فكرة الخلافة وأستاذية العالم، وفكرة شيوعية العالم "المشاع" إلى آخر هذه الأحلام الحائمة في الذهنية هي أفكار خيالية، حالمة، لا تنتمي جميعُها للواقع، ولن تكونَ على أية حالٍ من الأحوال. يؤمن بها القطيع إيمانا أعمى، ومن أجلها كانت حروبُ التاريخ ومآسي البشرية وجرائم الإنسانية التي لا مثيل لها في عالم الحيوانات..!
أفكارٌ كبيرةٌ لعقولٍ صغيرةٍ من عامة الناس يستلذون بأطيافِ أحلامِها في صحوهم ومنامهم على حدٍ سواء، منذ طفولتهم حتى مماتهم، وقد تسيّجت عقولهم بتلك المعتقدات التي شُحنت شحنًا في أدمغتهم، ويصعبُ؛ بل يستحيلُ تجاوزها، خاصة في المجتمعات المنغلقة على نفسها التي ترى أنّ قوانين الوجود وسنن الكون ومناهج العلوم ما تطابقت مع أفكارها هي فقط، وكل ما عداها باطل..!
لهذا لا عجبَ أن تجدَ شابًا ما قد ترسخَ في عقله الباطن أنّ الموتَ أفضلُ من الحياة؛ مُرددا: "الموتُ في سبيل الله أسمى أمانينا"..!
هذه هي "السّاموراي النفسية" وداخل كل مؤدلج من القطيع الحوثي، وأي قطيع آخر "ساموراي" صغير يسكنُه من حيث لا يدري..!
هذا الشعارُ في حقيقته النفسيّة إعلانٌ للفشل في الحياة، فشل الفرد الذي لم يستطع تحقيق ذاته بالطرق المشروعة والعقلانية، إذا ما توقفنا هنا عند هرم "ماسلو"، كما هو فشلُ الجماعة أيضا؛ وبالتالي فقد لجأ/ لجأت إلى أقصر الطرق لتحقيق الذات، أو التسامي النفسي في البحث عن مشروع بديل، ولو في العالم الآخر..!
ولو كان هذا الفردُ، أو تلك الجماعة ذا/ ذات عقلٍ رشيدٍ وفكر واسع لاستبدلوا الموت في سبيل الله بالحياة في سبيل الله؛ فهي الأقرب، وهي الأجدى، وهي الأكثر نفعًا؛ لأنك لن تكونَ في سبيلِ الله في أُخْرَاك حتى تكونَ كذلك في دُنياك..! أليسَ الحاضرُ أولى؟! هذا ما لم يفكر به العقلُ المستلب..!
لقد تبلورت فكرة الاستشهاد هذه في المسيحيّة الأولى أثناء اضطهاد الرومان لأتباع يسوع، بصورةٍ لم تكن حاضرة من قبل، كرد فعلٍ نفسي، كما حصلَ قبل ذلك لليهودِ أثناء السّبي البابلي، وإن لم يكن بالصُّورة التي تبدت بها المسيحيّة؛ لأنّ العقلّ اليهوديَّ بطبيعته عقلٌ ماديٌ، تحليليٌ في الغالب؛ لذلك كانت فكرةُ التجسيم لديهم شائعة، وكانت تساؤلاتُهم الجدليّة وحواراتهم مع أنبيائهم ذاتَ منزعٍ ماديٍّ خالص؛ خلافًا للمسيحيّة التي تُعتبرُ على الضّد من ذلك، كمَلْمحٍ خفيٍ من ملامحِ ردِّ الفعل الذي تأتّتْ من أجله المسيحيّة أساسًا. ومن هنا نشأ الوعظُ الدينيُّ، مرتبطًا بمشاعر الاضطهاد والشعور بالضّعف والتذلل النفسي، سواء في اليهودية أم المسيحية أم الإسلام؛ لكن هذا الوعظَ ذاتَه، بسَمْتِه الوقور، وملمحه الوديع يتحولُ بقدرةِ قادرٍ إلى تحريضٍ عنيف وقاتلٍ وعدوانيٍ في لحظاتِ الفتوة للجماعة التي تتقوى بعد الضّعف، كما رأينا ذلك في أدبيات الحروب الصليبية؛ حيث تحولت "الكرازات" و "الأبرشيات" الوعظيّة إلى منصّاتِ عُنفٍ تستجيشُ القطيعَ في أنحاء أوروبا، لإرسالهم إلى بلاد الشرق للحرب، من أجل استعادة مملكة الرب..!
نعم.. هذا ما حصل، على الرغم من المقولة السائدة، المنسوبة ليسوع: "من لطمك على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر". وعلى الرغم من الوادعة والرأفة التي كان يتظاهر بها القساوسة.
أيضًا تبدت فكرةُ الاستشهاد والتضحية بالنفس في الفكر اليساري المتشدد خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قبل أن تنتقلَ الفكرةُ إلى اليمين الديني المتشدد.
مرة أخرى.. إنّها الأفكارُ الكبيرة: أبناء الله.. الخلاص والفادي.. أبناء رسول الله.. الخلافة.. الإمامة.. شيوعية العالم.. إلخ، والتي تتحلّق حولها الجموعُ وتلتفُّ بلا وعي، معتقدة فيها الخلاص من شقائها الذي تعيشُه، وما تدري أنها تزيدُ نفسها بهذا السلوك شقاء إلى شقائها، وجلها لا يقوم بنيانُها ويستوي عودُها إلا على أنهارٍ من الدماءِ وتلالٍ من الجماجم..!
إنَّ هذه الأفكار الكبيرة هي مُثُل الجماعةِ وخُلاصةُ عقلها الجمعي المتشكلِ بالإرث التاريخي أو الديني، أو الرغبة الطارئة، ومن الإيمانِ بها تستمد قوتها الجمعية، وقد تنهضُ بها الأمة فترة من الزمن، كما حصل مع البلاشفة الذين نقلوا روسيا القيصرية من حياة القرون الوسطى إلى حياة القرن العشرين في سنوات، وقد تكبُو كما حصل مع النازيين الذين تسببوا في تدمير ألمانيا في الحرب العالمية الثانية.
قد تُستغلُّ الفكرةُ إيجابيًا كما فعل فرانكو الذي وحّدَ شتات اسبانيا واستعاد لحمتها السياسية، بصرف النظر عن ديكتاتوريته وقبضته الحديدية التي خلفت وراءها المآسي والأحزان، كما خلفت وراءها أيضا دولة قوية وناهضة، وقد تتقهقر الأمة إلى الخلف كما هو الشأن مع خمينية إيران منذُ سبعينيات القرن الماضي، وإلى اليوم، والتي أعادت إيران قرونًا إلى الوراء بالخرافة والكهنوت الديني، وكانت قد قطعت أشواطا في التمدن في عهد الشاه.!
ولنجاح الفكرة لا بدّ من واقعيتها أولا، فحنكة القائد ثانيا..
كانت الاشتراكية مطلبًا جماهيريًا واقعيًا لروسيا التي اكتوت بنيران إقطاعية القيصر؛ فيما كانت النازية قفزة في الظلام، لا علاقة لها بالواقع أو الواقعية، وإن امتلكت القائد الاستثنائي..!
الحوثي من ثم يخاطب جمهورًا أقل وعيا، مُغلفا خطابه بالدين وبالوطنية، على ما بين الحوثي من الدين والوطنية من قطيعة تامة، ومن ثم يستدرجهم إلى جبهات القتال.