الـيَمـن وحَمَلـةُ عرشِـه الـثمانِيـة
ليس معيبًا أن ترغمك الأَوضاع والظروف أحياناً على سلوك أحد الخيارات الممكنة لتحقيق غايتك المأمولة، وإن تبين أنَّ ذلك المسلك ليس أمثلها وأنجعها، كما في الحالة اليَمنية ووضعها الراهن الذي فرض عليها خيار الرئاسة الجماعية لقيادة البلد في ظرفها الاستثنائي والمنقسم في واقعه بين أطراف متباينة في الايديولوجية والأهداف، فلم تؤتِ أُكلها. لكنّ المعيبَ المذموم أن لا نبذل قصارى جهدنا أو ننزع سترتي الإخلاص والأمانة في سبيل تحقيق ما أُوكل إلينا.
لا شك أن واحدية القيادة وما تتيحه من سلطة مطلقة في اتخاذ القرار وسرعة اتخاذه وما يترتب على ذلك من فردية المسؤولية هي ميزةٌ قد تطغى على أسلوب القيادة الجماعية التي تتسم بالتقييد في اتخاذ القرارات دون الحصول على إجماع أو موافقة أغلبية الشركاء ، لكن في المقابل يبرز الأسلوب الأخير في بعض الأحيان كحلٍ ناجع لرأب الصدع ولحم الشرخ القائم بسبب الصراعات البينيّة بين أطرافٍ متعددة في جغرافيا الوطن الواحد بغية المشاركة في حكمه، أو استرضاءً لقيادات كياناتٍ متعددة اندمجت في كيانِ دولةٍ موحدة.
وفي الحالة اليمنية سبق وأن لجأنا لهذا الخيار في ظل توحِّد شطري اليمن عام ١٩٩٠م، لتوسعة المشاركة في إدارة البلاد وتلك حكمة اقتضتها اندماج الدولتين حينها، لتعود صيغة الرئاسة الفردية، ثم من جديد عاد بنا التاريخ مرة أخرى في السابع من أبريل ٢٠٢٢ لفكرة القيادة الجماعية، كحلٍ تقرر للخروج من حالة الجمود السياسي والضعف الأمني والتدهور الاقتصادي والانقسامات السارية آنذاك في صفوف المنتمين لفريق الشرعية، حيث قام الرئيس هادي بنقل سلطته الرئاسية وتفويض صلاحياته كاملة وبشكل لا رجعة فيه لمجلس قيادة رئاسي مكون من ثمانية أعضاء سمَّاهم في قرار صدر منه (يمكن اعتباره وفقاً لجوهر مضمونه إعلاناً دستوريًا).
والسُّؤال الذي يلوح في الأفق، ونحن على عتبة ولوج العام الرابع لتشكيل مجلس الثمانية، لماذا ازدادت الأوضاع سوءًا في شتى الأصعدة: سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا؟ في حين كان المنتظر خلاف ذلك،
إنَّ القارئ بعينٍ إيجابية للمشهد اليمني في إطار ذلك التشكيل الثُّماني لمجلس القيادة الرئاسي يلاحظ أنه رُوعيَ فيه خليطاً من معاييرَ متعددةٍ، تجلت في تمثيل: رقعة الجغرافيا، ونفوذ الثروة، والقوة العسكرية، والثِّقَل السياسي للأحزاب والمكونات الممثلة فيه، واتساع قواعد التأييد الشعبي لها، وأخيرًا واحدية الهدف الاستراتيجي الجامع لهم والمتمثل في استعادة شرعية الدولة وبسط نفوذها على كامل التراب الوطني. إنَّ كل تلك المعايير المكونة للمجلس والإمكانات التي يتمتع بها كانت تجرنا وبقوةٍ نحو أملٍ كبير وكبير جداً في تغيير الواقع المزري، سيلمس الوطن والمواطنون آثاره في زمن قياسي كانعكاس إيجابي طبيعي لذلك التشكيل.
لكن تكشَّف لنا خلاف ما أمَّلنا إذ بانَ وبشكل عام أنَّ المصالح الشخصية كانت هي الصبغة المهيمنة في فكر أعضاء المجلس، كما تكشَّف عملياً تبعيتهم المفرطة لبعض دول الأقليم الداعمة، لينتقل القرار السياسي إلى عواصم تلك الدول، وتصبح هي الريموت كنترول لتحركات مجلس القيادة الرئاسي وتحديد خارطة أهدافه، وبالتالي باتت المصالح الوطنية للبلاد أمرًا ثانويًا مرجوحاً أمام كفة مصالح دول الإقليم التي حتماً وللأسف سترجح عند التعارض بينهما في ميزان الأولويات.
لقد بات الشعبُ اليوم عقب عقد من الزمان من انطلاق التحالف العربي لدعم الشرعية، ودخول العام الرابع لتولي مجلس القيادة زمام ومقاليد الحكم، يعاني الويلات والويلات، بل بلغ منتهاه في تحمُّل تداعيات الأوضاع المتردية في كافة مجالات حياته التي اكتسَت بالبؤس والشقاء والغلاء بدلاً من الاستقرار والسَّعد والرخاء ، لقد بات الشعب اليوم - أكثر من أي وقت مضى - في كل رقعةً من جغرافية الوطن المكلوم في حالةٍ مُجمعٍ عليها من السَّخط العارم تجاه سلطته الحاكمة،
وذلك أمرٌ يستوجب وقفةً جادةً من قيادة الدولة (مجلس الثمانية) لمراجعة ضمائرهم وحساباتهم، وإعادة توجيه البوصلة نحو تغليب المصالح الوطنية على ما عداها، والسَّعى لتغيير الواقع المرير لرعاياهم المكلومين بما يرفع المعاناة الأليمة عنهم ويرسم على وجوهم أمل الاستبشار بحياةٍ كريمة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وجوب استكمال بسط نفوذ الدولة واستعادة شرعيتها على كامل ترابها الوطني وتخليص الوطن من شوائب الفتن والإضرار به، وبسط الأمن والأمان في ربوعه، وتحقيق الاستقرار السياسي وعودة المناخ الصحي من ألفة وتآلف بين أبنائه.
ختامـاً.. إنَّ السلطة والحكم مسؤولية عظيمة في عنق متوليها، والعرش اليمني المحمول على أكتاف ثمانيةٍ من علية القوم هم أولي قوة ونفوذ، حتماً ولزاماً سيتقاسمون المسؤولية فيما بينهم أمام الله وأمام شعبهم، فاللَّهَ اللَّهَ في يمننا الحبيب ليعودَ لسابق عهده ومجده، وليكونَ مصاناً من عبَث العابثين ومحميًّا من فتن التمزيق الجغرافي والانقسام الطائفي، وابذلوا قصارى جهودكم للخروج بمركب الوطن من أمواج المآسي وبحر الأحزان لشاطئ النجاة وبر الأمان، وإلا فاتركوا الأمر لمن ينوءُ بحمله، فرحمةُ اللَّه تغشى من عرفَ قدر نفسه وقدرته.