الرئيس صالح تجربة سياسية واجتماعية رائدة
لم تكن تجربة الرئيس الشهيد علي عبد الله صالح السياسية وليدة لحظة ما، بل كانت نتاج لتجارب عديدة استطاع صالح أن يبلورها بالصورة التي كانت عليه خلال أكثر من ثلاثة عقود بشهادة الكثير من السياسيين والرؤساء، تجربة كانت ولا تزال جديرة بأن تكون لمن جاء بعده ملهمة في كل الجوانب.
كان الرئيس صالح قارئ جيد للفسيفساء اليمنية ببعديها السياسي والاجتماعي واكتسب خبرة جيدة اثناء فترة حكمة في التعامل مع خصائص الواقع اليمني وتعامل ببرجماتية مع الاحداث، واستطاع ان يتجاوز الكثير من التحديات الصعبة بما مارسه من مرونة سياسية وقدرة على المناورة خاصة في تعامله مع خصومه السياسيين ومع الخارج، والاستفادة من الفرص المتاحة، وطبق سياسة الجزرة والعصا في كثير من الاحيان لتمرير قراراته التي استرشد فيها ببوصلة وطنية توخت دوما تحقيق مصلحة اليمن أولًا.
الى جانب تعامل الرجل مع الجميع بحكمة وطول بال لم يكن أحد يتوقع أن يخرج كل ذلك من شخص عاش سواد الإمامة وحرم من كثير من الخدمات أهمها التعليم في مطلع صباه، وكان مجرد فلاح بسيط في أقصي منطقة عاشت الجهل بكل صوره، قبل أن يصبح جندي، لكن الإصرار كان يدفعه للمعرفة والتعرف وللعلم وكسب الخبرات.
ورغم اختلاف الظروف والأحداث وتغير المسميات وسقوط نظريات وأقطاب إلا أن صالح ركز على مجال التنمية وتطوير قدرات الدولة والانفتاح على العالم وبناء المؤسسات الصلبة مع الإبقاء على بعض الخيوط المتصلة بالمجتمع من أعراف وثوابت بحيث لا تتصادم مع البناء وتشكل انتكاسة، وقد فتح باب الحوار على مصراعيه.
كما أنه تقبل الديمقراطية وشجع على حرية التعبير عن الرأي و تغاضى عن كثير من الأعمال السرية للأحزاب القومية واليسارية والاسلامية، ولم يظهر خوفه منها حتى خرج العمل الحزبي إلى العلن وبدأت التعددية السياسية والحزبية تشق طريقها على الأرض وكانت التجربة الديمقراطية سفينة النجاة، والصندوق ملاذ لترسيخ حرية الاختيار والسير على نهج الشورى والتنافس الحثيث في قيادة البلد والمؤسسات.
لقد كان اهم ما ميز عهد علي عبدالله صالح هو استعانته بالكثير من الكفاءات دون النظر لمنطقتهم أو توجهاتهم أو أفكارهم الأيديولوجية طالما سيصب ذلك في بناء الوطن على أسس متينة قائمة على العدالة والحرية والحفاظ على السيادة دون تهميش أو اقصاء، فكان الحوار حاضرا، وكانت الحكمة تقود الدفة بالتغلب على المشكلات ومحاكاة القوى المناهضة وتهذيب المواجهات السياسية، كما خلق توازن واسع في إدارة المشهد، وجعل من الجميع يدورون في فلك الوطن وبناء مشروع سياسي واجتماعي بعيد عن التطرف والإرهاب.
حاول بكل الجهود ترك مساحة واسعة للكيانات بكل مسمياتها للعمل في اطار وطني قائم على التسامح بعيدا عن البعد المذهبي والطائفي حتى آخر لحظة من عمر الدولة والنظام قبل أن تنتكس البلد وتدخل في حالة غيبوبة لم تشهدها خلال عقود من الزمن، وصولا إلى مشروع المليشيا الذي جثم على الصدور وأراد تغيير العقول ونهب المقدرات.
خلاصة القول ستظل شخصية الرئيس الراحل الشهيد علي عبدالله صالح بقعة ضوء خالدة ونقطة بارزة يدور حولها الجدل والتباينات على رغم وضوح كثير من جوانبها التي لا تحتاج للخلط والوقوف على أحكام وتصورات أو بناء محاكمات وتقرير نتائج للنيل من الرجل، ولعل المحطات والمراحل متعددة وقد كان الرجل شاهد حي وفاعل مؤثر على مسار سياسي واجتماعي استطاع أن يشكل منهما بنية يصعب نقدها بجرة قلم أو رأي متزمت، شخصية تشكلت من كل ما هو يمني وعروبي، فطنة وحدة في الذكاء والدهاء والمروءة والشهامة، وللتاريخ وأصحاب الأقلام المنصفة أن يحكموا والسلام على روحه منذ الولادة حتى الشهادة.