ألا تبًّا للتافهين !

05:59 2023/09/09

صناعة التفاهة ليست سلوكًا غريبًا على الإنسان؛ فلطالما رأينا تصرفات إنسانية لا تُقدم نفعًا ، ولا تدفع ضرًا ، ولا تحقق تسلية بقدر ما تؤذي النظر وتزعج السمع، وتبعث مكامن التقزز لدى الآخرين!

أما صناعة التافهين فهو السلوك الأبشع في جبين البشرية، والذي يجعل مجموعة من الأغبياء ، أو المتنفعين يُسَيّرون المشهد العام نحو تقدير ، وربما التقديس لسلوك بشري أخرق وساذج، ويربطون ذلك السلوك بقيم وهمية مثل النكتة البريئة أو الجمال الآسر أو المواكبة والمعاصرة أو كل ذلك!

مَنْ صنع التافهين هم التافهون، حينما تقوم الدنيا ، ولا تكاد تقعد تمجيدًا لكلمة عامية أطلقها تافة واحد، وتناقلها ملايين التافهين؛ فالقضية ليست حدثًا عابر بقدر ما هي خلل في تركيب ونسيج مجتمع يرى في الهروب نحو السذاجة خلاصًا من العقل والحكمة والجمال والرزانة .

حينما تلتهب مواقع التواصل الاجتماعي في مجتمع ما؛ لأن مجموعة من المتنفعين ركضوا بلا خجل خلف تافه لا يملك من مقومات الحياة سوى المال، فالأمر مؤشر خطير على أن تكوين إنسان ذلك المجتمع يقدس المال حد الجنون، ويملك الشجاعة الكافية لمقايضة المثل والمبادئ والأصول الصحيحة بمبالغ زهيدة لا تسد رمقًا ولا تملأ جيبًا .

وحينما يصبح التافهون مصدرًا للثقة في سلعة ما، ومرجعًا لتقييم الأوضاع الثقافية، والاجتماعية، والتعليمية والصحية، والأحداث المعاصرة الدولية، والأعراف المحلية، فالأمر لم يعد مجرد تافه يستمع له تافهون بل أصبح سوسًا ينخر في عظام المجتمعات، بحيث يبدو ذلك المجتمع بعد حين كعروس زفت إلى رجل لا تحبه ، ترتدي فستانًا باهيًا وجواهر تتلألأ ، وتصفف شعرها بيد أنها تحمل في روحها تعاسة لم ، ولن يفلح كل ما ترتديه في اقتلاعه من جوفها .

ومن أعجب ، وأخيب ما يلجأ إليه التافهون في صناعة تفاهاتهم هو التشكيك في جدوى القيم العليا، ومنها المعرفة والعلم، وذلك باستخدام أداة بالية ومعروفة تسمى “المواكبة” ! بموجب هذه الأداة يزرع التافهون في وجدان قطعانهم أن العصر يتطور والموضة تتجدد ، والحياة لا تقف عند القديم والعتيق، وهو أسلوب مقبول عقلانيًا قبل أن يضيفوا لخلطتهم الماكرة بأن التقادم الذي يقصدونه يكمن في الالتزام بالقيم الأصيلة، والمعرفة النافعة والكلام المثمر، والعمل الجاد ،حينها ينجرف مجموعة من خرافهم فاقدي تلك القيم نحو الطريق الأسهل، وهو طريق تقزيم القيم لصالح النِقم.

فالحياة كما يراها التافهون لا تستحق أن تؤخذ على محمل الجد؛ فنحن بالمحصلة نعيش مرة واحدة، ولذلك فالصواب أن نعيشها بلا جدية، لا مانع لدى أحد التافهين أن تقضي ثلاثة أرباع حياتك في دور الأزياء ، والموضة ،والمقاهي ، والمطاعم مقابل ربع حياة في التعليم، وخدمة المجتمع ، ونفع الأوطان.و لا مانع لدى تافه آخر أن يجعل من جسده أو بعضه مصدرًا للتكسب ومنفذًا للترقي في مسالك الخيبة والهوان، ولا مانع لدى أخرق ثالث أن يشذ عن القيم الفكرية العُليا والثابتة بخروج مخجل جدًا عن النص طالما أن هذا الظهور سيضمن له ما يعيش به في عالمه المخملي وفانتازيا الوهم والضياع.

الحياة مع التفاهة لا تصمد طويلًا وشهادات التاريخ أكبر من أي شهادة، والانفلات خلف فلاشات التافهين رحلة جميلة جدًا ، ومغرية تنتهي حتمًا بحادث سير يقضي على جميع من كانوا في المركبة، والتفاهة لا تقدم نفعًا ماديًا مباشرًا ، وحقيقيًا سوى لصاحبها في الوقت الذي يظل فيه المدافعون عنهم يتناولون ما يسميه الإنجليز A dog’s dinner ، أي بقايا مخلفات طعام أسيادهم.

وحينما تنكشف الحجب ، ويحين وقت الجد ، وتبرز الأولويات الكبرى للمجتمعات، فلن يكون للتافه وتابعيه مكان في عالم الحق والجد; لأن التفاهة أهون من أن تقدم حلولًا للمعضلات، وأهش من أن تقترح خططًا للمواجهات، وأهون من أن تتبنى رأيًا سديدًا للملمات، ستظهر على حقيقتها ، وستكون لعنة لحقت بمجتمع ما، فأحالته إلى مجموعة أشباح ، لا يُرجى منهم نفعّا، ولا يظهر لسيوفهم لمعًا .

ألا تبّا للتافهين!