هزمته امرأة... وَسَرَقَهُ ولده... وقَتل مُعلمه... وتواصل مع الإنجليز سِرًّا الإمام الذي أذل اليمنيين

01:33 2022/09/19

بخروج الأتراك من اليمن- مُنتصف القرن الحادي عشر الهجري- صار اليمن مِيراثًا سهلًا للدولة القاسمية، لتدخل الزّيدِيّة- دولةً ومذهبًا- مَرحلة اختبار حقيقي في كيفية تعاملها مع الآخر، ظلت فتاوى الفقهاء (فقهاء الهادوية) حول ذلك تُراوح مَكانها، حتى تولى الإمامة الفقيه المُتعصب المُتوكل إسماعيل بن القاسم، الذي صنع بفتاويه أعداء وهميين، احتوى أقاربه الطامحين، وجيَّش القبائل الشمالية جنوبًا، وغربًا، وشرقًا، مُؤسسًا بذلك أسوأ احتلال عرفته تلك المناطق على مدى تاريخها.
تواصل سري
كافئ المُتوكل إسماعيل ومن أتى بعده من أئمة أولئك المُحاربين بالأرض والثروة، وقد مضى على نهجه- وإنْ بصورة جزئية- المُتوكل يحيى بن المنصور محمد حميد الدين، تولى الأخير الإمامة بعد يوم واحد من وفاة والده 5 يونيو 1904م، حدث بادئ الأمر لغط كبير حول تنصيبه، اجتمع فقهاء الزّيدِيّة في حصن نواش ( وشحة )، فدفع يحيى بصاحبه شيخ حاشد ناصر بن مبخوت الأحمر للضغط عليهم، ولم يدعهم الأخير يخرجون من مجلسهم إلا بعد أخذ بيعتهم. كان حصن شهارة المنيع مَقَرًّا لحكمه، وقد بدأ عهده كأبيه بمحاربة الأتراك، ووعد مُقاتليه بالغنائم الكثيرة، وأفتى ب «أن من قتل تُرْكِيَا دخل الجنة»، وسيطر ب 20,000 مُقاتل على أغلب المناطق الشمالية.
حاصرت قوات ذات الإمام صنعاء لستة أشهر مُتتالية، ليدخلها بعد جلاء الأتراك إلى حراز، بمُوجب اتفاق صلح مدته عام كامل، وقَّعه الطرفان 27 أبريل 1905م، وقد أشرف هو بنفسه عليه، كما أشرف من قبل على سير المعارك، وسيطرت قواته على مُعظم مناطق اليمن الخاضعة للأتراك، عدا تعز، وإب ، وحراز ، وتهامة، وقفل شمر، وكان دخوله صنعاء بعد شهر واحد من توقيع ذلك الصلح، وسمح باستمرار الدعاء للسلطان العثماني، واستبقى الراية العثمانية ترفرف في ذات المدينة؛ مُبررًا ذلك بأنَّه يصب في مصلحة المسلمين!
كشفت في المُقابل وثائق بريطانية أرخت لحوادث تلك الفترة أنَّه- أي الإمام يحيى- تواصل خلال ذات العام مع الإنجليز في عدن، بواسطة سلطان لحج أحمد بن فضل العبدلي، وأرسل مبعوث خاص لذات الغرض، وطالبهم صراحة بدعمه بالمال والسلاح، وقدم لهم قائمة بذلك، وشدد على ضرورة أنْ يبقى موضوع ذلك التواصل طي السرية والكتمان!
كثرت عام ذاك أعمال النهب من قبل قوات الإمام يحيى، خاصة حينما توجهت بأوامر منه جنوبًا، وما إن حطت رحالها في يريم، حتى عاثت فيها نهبًا وخرابًا، وقتلت 30 شخصًا أكثرهم من الأطفال والنساء، وقيل أكثر، رغم أنَّها- أي يريم- منطقة زيدية توالي الإمامة، وعن ذلك قال المُؤرخ الواسعي: «كان العرب حولها ذو محمد وذو حسين، قبيلة معروفة مُتوغلة في الجهل، والقسوة، والشدة، والفجور... هجموا على هذه المدينة، وحصل منهم الأفعال الشنيعة من النهب والقتل، ثم الخراب».
وقد أورد القاضي عبد الرحمن الإرياني في مذكراته تفاصيل ذلك نقلًا عن أبيه، حيث قال: «ولكن الجيش المؤلف من قبائل همجية قد هالهم ما رأوا في بيوت المواطنين الذين فتحوها لاستضافتهم، فأقدموا على نهب كل ما وصلت إليه أيديهم، حتى بلغ بهم الأمر أنْ يقطعوا آذان النساء ليأخذوا الأقراط التي عليها». والغريب في الأمر أنَّ الإمام يحيى وبعد عدة مناشدات رفض تعويض أبناء يريم، فيما عوضهم الأتراك- فيما بعد- ب 600 ليرة ذهبية.
كما تعرض الإسماعيليون في حراز للقتل والتنكيل الشديد، وعن ذلك قال المُؤرخ سعد الشرقي: «قتلى الباطنية إلى تاريخ ثامن وعشرين صفر- يوافق 27 فبراير 1911م- من كبارهم وأعيانهم نحو ستين قتيلًا، ولولا إعانة عجم مناخة- يقصد الأتراك- لهم في الحرب وبالمونة والبنادق أن قد سقطوا، ولا بد بحول الله أن الإمام -حفظه الله-  يستأصل شأفة العجم والباطنية»!
جهز الأتراك حملة عسكرية قوامها 50,000 مُقاتل، بقيادة المشير الثمانيني أحمد فيضي باشا، وما أنْ علم الإمام يحيى بمقدمه، حتى خرج بقواته من صنعاء، وذلك بعد شهرين من دخولها، مُتذرعًا هذه المرة بخوفه على سكانها، فيما لاحقته القوات العثمانية إلى مشارف شهارة، وتعرضت هناك لهزيمة قاسية.
أعوان الظلمة!
استعاد الإمام يحيى بعد معركة شهارة أنفاسه، وأفتى بعدم جواز صلاة الجمعة مع الأتراك، وأشرف بنفسه على حرب عصابات كلفت الأخيرين وأعوانهم الكثير، وقام بقتل القاضي إسماعيل لردمي ، والشيخ أحمد كحيل، والشيخ سعيد دوده، والشيخ مُصلح مطير، وثلاثة أخوة من أسرة أبي الدنيا، وخادم لهم، وذكر العميد محمد الأكوع أنَّه- أي الإمام يحيى- قتل 11 شخصًا (ربما يكونوا أنفسهم الأشخاص المذكورين أنفًا) خنقًا في إحدى مساجد القفلة؛ والسبب مُناصرة غالبيتهم للأتراك.
في شهادته على تلك المرحلة، قال اللواء أحمد قرحش لقناة (بلقيس) أنَّ الثلاثة الأخوة من أسرة أبي الدنيا تم قتلهم بعد خروج الأتراك، وذلك أثناء مُساندتهم لمحسن بن ناصر شيبان في انتفاضته ضد الإمام يحيى 1920م، وهي الانتفاضة التي حدثت بمُعاضدة مَجاميع من قبيلة حاشد، وكان مصيرها الفشل. وعلي خلاف ذلك القول أفاد المُؤرخ محمد الأكوع أنَّ أولاد أبو دنيا كانوا ينقلوا المواد الغذائية للأتراك من الحديدة إلى حجة، وأكمل ذات المُؤرخ ذلك المشهد بقوله: «فحز في قلب الإمام؛ فأرسل لهم ثلة من مردته، وأخذوهم على غرة، وساقوهم إلى قفلة عذر، حيث لقوا حتفهم؛ فامتلأ اليمن رعبًا وخوفًا».
ظلت والدة الثلاثة الأخوة تُقارع الإمام الطاغية، وتُشنع عليه، وقد اعترضت ذات نهار موكبه، لا لشيء، إلا لكي تتعرف على صورته أكثر، استعدادًا لشد خناقه يوم الحشر الأكبر، وقيل أنَّها خاطبته قائلة: «قد سبقوك إلى جوار ربهم، وهم ينتظرونك تلحق بهم»، وأجبرته على البكاء، وعلي اعتزال الناس في قصره لعدة أيام. ولم تكتفِ تلك المرأة بذلك؛ بل كانت- كما أفاد المُؤرخ الأكوع- تُؤذي الإمام يحيى كرارًا ومرارًا، وجعلته يرسل إليها بأفاضل الرجال وأكابر العلماء من أجل إرضائها، ولكن دون جدوى.
وعن تلك المرأة الهمدانية اَلشُّجَاعَة قال القاضي محمد محمود الزبيري مُشيدًا: «كان صوتها جريئًا باسلًا، مُحزنًا عاليًا علو ....