مقاربات حداثية ............... (3)

08:09 2022/08/01

تواصلا مع ما أوردته في الحلقة السابقة عن الحداثة والحداثة السياسية، وجدت أن من المهم العودة لفحص وتدقيق مفهوم الحداثة كما لامسه الفلاسفة والمفكرون الحداثيون باعتباره مفهوما إشكاليا.
 
مفهوم الحداثة
 
الحداثة مفهوم تاريخي وفلسفي وعلمي متعدد الوجوه والمقاربات، وقد تطور بتطور الحداثة ذاتها واتخذ أبعادا منها ما هو فلسفي وفكري ومنهجي، ومنها ما هو مادي واقتصادي وتقني وسياسي وطريقة حياة، إلا أن هذه المقاربات ظلت في حالة بناء وتطور مستمر، وخضعت للنقد والمراجعة حتى استكمل المشهد الحداثي ملامحه من خلال تجسده كنمط حضاري ومنهج حياة متقدم بلغته البشرية، بعد قرون من خضوع الإنسان لسيطرة الطبيعة، ومن ثم لسيطرة الغيبيات لتعويض عجزه ومحدودية حواسه وقدراته الجسدية، فكانت الحداثة رد اعتبار تاريخيا في حياة البشرية للعقل وتعويلا على قوته مقابل عجز الحواس وضعف الجسد عن اكتشاف وإخضاع الطبيعة، لتكون الحداثة بداية مرحلة بشرية جديدة تقطع مع الماضي ومع الغيب، وتعلي من الطاقة العقلية والإبداعية للإنسان بناء على تحرره من الكوابح التاريخية والحمولات الغيبية والعوائق الثقافية، ولتأخذ مجالها التطبيقي في النهضة الأوروبية بداية من أواخر القرن الرابع عشر الميلادي وتواصلا وتطورا وتراكما بلغ مراحل ما بعد الحداثة.
 
إشكالية المفهوم
 
يحتل مفهوم الحداثة "Modernity" في الفكر المعاصر مكانا بارزا، فهو يشير بوجه عام إلى سيرورة الأشياء بعد أن كان يشير إلى جوهرها، ويفرض صورة جديدة للإنسان والعقل والهوية، تتناقض جذريا مع ما كان سائدا في القرون الوسطى.
 
وبالرغم من أهمية هذا المفهوم وشيوعه في الفكر المعاصر، إلا أنه أكثر التباسا وتعقيدا لما ينطوي عليه من غموض وارتباطه بحقول معرفية عديدة واستخدامه في مجالات مختلفة وتوازي معناه مع مسيرة الحضارة الغربية الحديثة، التي أفرزت إشكاليات رافقت الحداثة وما بعدها، وكذلك تعدد أبعاده ومدلولاته وشموليته لمستويات من الوجود الإنساني، العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية والأدبية والفنية والفلسفية والتداخل فيما بينه (انظر: إبراهم الحيدري. ماهي الحداثة؟ 2009).
 
سمة الحداثة في الأصل "أن كل تعريفٍ لها يقعُ خلفها أو ما قبلها أو يشكل انقلاباً ضدها، من هنا لا يمكن الكلام عليها إلا على نحوٍ إشكالي تفقد معه المقولات أمنها المعرفي لكي تنفتح على ما هو نسبي... فالحداثة تجربة لا تكتمل ومشروع هو دوماً قيد التأسيس" (علي حرب. الممنوع والممتنع: نقد الذات المفكِّرة، 2011). يقول ديفيد هارفي: "لطالما استغلق علينا معنى الحداثة والتبس، لذلك فإنَّ ردَّ الفعل المعروف باسم (ما بعد الحداثة) يظل هو الآخر مستغلقاً وبكيفية مضاعفة"  كمحمد الشيخ وياسر الطائي. مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة، 1996). 
 
هناك صعوبة في صياغة تعريف عام وثابت وبصيغة المفرد للحداثة من حيث هي غير قابلة للقبض على مضمونها، لأن منطقها موسوم بسمات الصيرورة والجدلية وعدم الاكتمال وكونها عابرة ومنفلتة وعرضية بحسب تعبير الشاعر بودلير. (سعيد عبيدي. مقاربة عبد الله العروي لمفهوم الحداثة 2017).
إذن فمن الصعوبة بمكان الإمساك بمصطلح الحداثة وتحديده أو محاولة التماس ضبط محتواه ووضع صورة دقيقة له. هذه الصعوبة مردها إلى أسباب وعوامل عدة تشابك فيما بينها لتزيد من حدتها. فاختلاف الرؤى والآراء بين الفلاسفة والمفكرين في تحديد تاريخ معين للحداثة وضبط مضمون محدد لدلالتها هو من بين عناصر الصعوبة، يضاف إلى هذا المواقف التأويلية والإيديولوجية والحضارية التي غالبا ما تزيد من تعقيد مسألة التعريف، تماما مثل المفهوم الحضاري الشمولي الذي يطال كافة مستويات الوجود الإنساني السياسية منها، والاجتماعية، والاقتصادية، والتربوية، والتقنية، والأخلاقية، والثقافية (محمد سبيلا. الحداثة وما بعد الحداثة 2000).
 
 
باحث في الاتصال السياسي