نظرات وتأملات .... (1)

05:30 2022/07/30

ابتداء من هذه الحلقة، سأحاول مقاربة بعض الظواهر والإشكاليات والمسائل الفكرية والثقافية وربما الفلسفية، وفي مقدمتها المشكلة اليمنية في بعدها الحضاري.
 
وفي محاولتي لمقاربة الصراع الحالي في اليمن من منظور حداثي، وجدت أنه من غير المفيد أن أتحدث عن الإشكالية دون مقاربة مفهوم الحداثة باقتضاب واختصار وإلمام يستوعبه الجميع، كمدخل ضروري لفهم الإشكالية القائمة، مع الوعي بأن الحالة اليمنية هي محاولات انتقالية للعبور من التقليد إلى الحداثة.
 
(1)
بين الحداثة والتحديث
 
يعُد بعض الباحثين الفصل بين مفهومي الحداثة والتحديث مدخلا منهجيا لتعريف الحداثة بصورة علمية، وغالبا ما يرسم الباحثون في ميدان العلوم الإنسانية حدودا فاصلة بين مفهومي الحداثة والتحديث، فعلى الرغم من هذا الترسيم العلمي يلاحظ التداخل الكبير بين المفهومين، فغالبا ما يجري استخدام مفهوم تحديث للدلالة على الحداثة وعلى خلاف ذلك، كثيرا ما يستخدم مفهوم الحداثة للإشارة إلى ظاهرة التحديث (علي وطفة. مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة.)
وفي مناقشة إشكالية التداخل والتمييز بين المصطلحين (الحداثة والتحديث)، يرى محمد محفوظ أن مصطلح الحداثة "يبدو وكأنه نص مفتوح على كل مضامين التقدم المعاصر، بحيث أنك لا تفرق بشكل صارم بين مضمون مصطلح الحداثة وبين مضامين مفاهيم التحديث والتقدم والعصرية أو التجديد، ويمتد التداخل  ليشمل المعايير والقيم وأنماط السلوك واللباس وطراز السكن، أي كل مناحي الحياة في آخر المطاف (محمد محفوظ. الإسلام، الغرب وحوار المستقبل).
 
وحول ذات الإشكالية يركز علي وطفة على تمايز مفهوم الحداثة Modernity عن مفهوم التحديث Modernization في اللغتين الفرنسية والإنكليزية، ذلك أن الحداثة هي موقف عقلي تجاه مسألة المعرفة وإزاء المناهج التي يستخدمها العقل في التوصل إلى معرفة ملموسة، أما التحديث Modernization فهو عملية استجلاب التقنية والمخترعات الحديثة حيث توظف هذه التقنيات في الحياة الاجتماعية دون إحداث أي تغيير عقلي أو ذهني للإنسان من الكون والعالم. فأنصار التيارات السلفية المتطرفة يوجدون في المعاهد العلمية ويتعاملون مع التقنية الحديثة دون أن يأخذوا بالروح العلمية أو الفلسفية لهذه التقانة. 
 
ومن أجل أن نفهم جوهر الحداثة يتوجب علينا أن ندركها كطاقة متجددة متحركة منطلقة تتمثل الماضي والحاضر، وتعيد إنتاجهما بروح مستقبلية جديدة. واستطرادا مع جهد علي وطفة في هذا المضمار، فإن التطورات التي تسجل في مستويات الإنتاج والاستهلاك وفي البنية التحتية تشكل صورة لعملية تحديث، وشتان ما بين الحداثة والتحديث، فالتحديث يعني مظاهر الحداثة وقشورها بينما تعني الحداثة في الأصل اللحظة الواعية التي تتمثل في انتظام العقلانية والفردية والعلمانية والقيم الحرة في اندفاعة حضارية قادرة على إحداث تحولات عميقة في البنية الاجتماعية والبنائية للمجتمع.
 
 ومن جانبه يشدد عبد الوهاب المسيري على ضرورة التفريق بين مشروع التحديث كمخطط وأمل، والتحديث كظاهرة تحققت في الواقع بالفعل. فالمشروع التحديثي يقدم متتالية منمذجة مثالية مرغوبا فيها، أما التجربة التحديثية فهي متتالية متعينة ومتحققة، إذ تكشفت خلال الأربعة قرون الماضية تدريجيا، وازدادت تبلورا خلال القرن العشرين، ورافقتها سلبيات عدة.
 
 ويشير سيمون تشوداك إلى أن مصطلح التحديث "يعبر عن عملية الفجوة القائمة بين مستوى نمو المجتمع والصور الأخرى الأكثر تقدما وحداثة، والتي تهدف إلى الدخول إلى مستويات أعلى من أنماط السلوك والعمل وطرائق التفكير الأكثر حداثة وعصرية وأكثر عقلانية ورشدا .. وأكثر نفعا وفائدة" الحداثة إذن هي حالة تعتمل في بوتقة الروح الاجتماعية وتتجلى في مظاهر الجسد الاجتماعي، أما التحديث فقد يكون حالة من حالات الاستيراد المنظم لشكليات الحداثة مثل: استيراد السيارات والطائرات وأنظمة التعليم وبدع الاستهلاك الاجتماعي.