الصايدي.. الشاعر والسياسي والمعلم

07:55 2022/07/21

هناك قامات رفيعة تحتار من أين تبدأ معها، وكيف تلج إلى عالمها الرحب المليء بالإبداع والحكمة، أحدها من سأكتب عنه اليوم.
الدكتور أحمد قايد الصايدي، الأخ والأستاذ، الذي جمعتني به علاقة وطيدة امتدت لأكثر من أربعة عقود، كان فيها صديقاً، مثلما كان الأخ والصديق لأخي الأكبر الأستاذ المرحوم محمد سعيد باكحيل، من أبرز المحاسبين القانونيين في اليمن وأستاذ المحاسبة في المعهد الوطني للعلوم الإدارية. إذ أنهما درسا معاً في سوريا، واستمرت علاقتهما الأخوية.
وكان الصايدي أيضاً صديقاً لأخي الأكبر الدكتور عبدالهادي. فقد كانا زميلين، يدرسان في المعهد الوطني للعلوم الإدارية. وكنت أسعد بزيارة الدكتور أحمد وحديثه الشيق والممتع وحكمته ونظرته للأمور.
تعمقت صداقتي به عند دراستي الجامعية ورئاستي لاتحاد طلاب اليمن في منتصف الثمانينيات. وكان وقتها عميداً لكلية الآداب. تعلمنا منه الكثير، قدوة في السلوك والخلق القويم. عُرف بجديته وصرامته وشخصيته القوية. رجل دقيق في مواعيده، منضبط في سلوكه، صاحب قرار، لا يلين ولا يهادن، رجل أقل وصف له أنه من أصحاب المبادئ والقيم.
الدكتور أحمد قايد الصايدي تخرج من الكلية العسكرية، ثم درس البكالوريوس في جامعة دمشق، وأكمل دراساته العليا في ألمانيا الغربية. وكانت أطروحته للدكتوراه عن حركة المعارضة اليمنية في عهد الإمام يحيى حميد الدين. وقد أضحت هذه الأطروحة من أهم المراجع العلمية للدارسين والباحثين عن أدوار المعارضة اليمنية خلال الفترة من 1918 حتى 1948.
عالم جليل وباحث مُجد، وأستاذ للتاريخ الحديث والمعاصر في جامعة صنعاء. بل إنه من مؤسسي الجامعة وكلية الآداب. غزير الإنتاج العلمي، نُشر له كثير من الكتب ومئات المقالات في عديد المجلات العلمية والصحف المحلية والعربية والدولية.
كاتب من طراز رفيع، عُرفت عنه الشجاعة في الرأي، لا يعرف المداهنة أو المجاملة أو المسايرة، حازم في آرائه تجاه القضايا المحلية والعربية، رجل وطني وحدوي، قومى الهوى والهوية.
كان الأستاذ والمعلم الصايدي من أكبر الذين حفزوني وشجعوني على مواصلة دراساتي العليا، ووسمني شرفاً عندما وافق أن يكون عضواً في مناقشة بحث التخرج في دبلوم الإدارة العامة، بالمعهد الوطني للعلوم الإدارية، والذي تحصلت فيه على درجة امتياز. وتابعني كذلك عن قرب في رسالة الماجستير، الموسومة بـ(دور مؤسسات المجتمع المدني في مجال حقوق الإنسان). بل إني أعتبره المشرف الفعلي على الرسالة؛ حيث كان يزودني بالمراجع ويتابع ما أُنجِزُه أولاً بأول. وكان لملاحظاته وإرشاداته الفضل الكبير في إخراجها بذلك المستوى. وزاد من أفضاله علي بأن شجعني بقوة على مواصلة دراساتي العليا، للحصول على درجة الدكتوراه.
يعد الصايدي واحداً من أعلام اليمن ونهضته العلمية، وممن أسهموا باكراً بنشاط لافت في الحياة العلمية والسياسية. هذا إلى جانب أنه شخصية متنوعة الجوانب: مناضل عتيد، وعالم جليل، وأستاذ جيل ترك بصماته في كل المواقع الإدارية والأكاديمية. رجل زاهد في المناصب وزخارف الوظيفة والعناوين. كان قبل أن يقبل المنصب يضع اشتراطاته التي تضمن جدوى المنصب في خدمة الوطن والناس، وعدم تعارضه مع قيمه ومبادئه التي لم يحد عنها يوماً. لم يبحث عن منصبٍ أو جاه، لأنه بعلمه وخبرته ورؤيته وطبيعة شخصيته، أكبر من المناصب وأرفع من العناوين.
لم يشغل موقعاً في الحياة السياسية أو الأكاديمية إلا مجبراً أو محرجاً، ليتخلى عنه في أول فرصة سانحة؛ حيث قالوا عنه: إن الرجل يتولى المنصب واستقالته في جيبه.
من ضمن المواقع التي تبوأها، عميداً للدراسات العليا بجامعة صنعاء. وفي عهده تم افتتاح الدراسات العليا في عدد من كليات الجامعة. وقد أسهم هذا القرار الاستراتيجي في إفساح المجال أمام أجيال من شباب اليمن وبناته للتأهيل العلمي، وخصوصاً من الذين لا يتمكنون من السفر إلى الخارج لمواصلة تحصيلهم العلمي. كما وفر هذا القرار أموالاً طائلة للدولة، وأتاح توسيع المكتبات في الجامعة ومكّن من دعوة الكثير من الأساتذة العرب والأجانب للإشراف والمناقشة على رسائل الطلاب، بدلاً عن ابتعاثهم إلى الخارج، خاصة للدراسات في العلوم الإنسانية.
سجل حافل بالمنجزات وتاريخ ناصع. اختار مهنة التدريس لحبه لها وتعلقه بطلابه، وهي أشرف وأنبل مهنة في التاريخ، فهو الأستاذ الأكاديمي والعالم الجهبذ. كما عُرف عنه السياسي المحنك، على الرغم من أنه ترك العمل الحزبي منذ أمد بعيد. فهو شخصية متمردة وله آراؤه السياسية ونظرته الثاقبة تجاه ما يدور، ومن ذلك قوله: إن الأستاذ الجامعي أكبر من الأحزاب، وعليه أن يكون مرجعاً للأحزاب وبعيداً عن التأطير الحزبي. وهذا صحيح، حتى في الغرب عندما تنتهي ولاية الرؤساء يذهبون إلى الجامعة، فهي القلعة الحصينة وموئل العلم وبيت العلماء. 
الأستاذ الصايدي إداري قدير ونزيه. تخلى عن العمل الحزبي، ولكنه لم يترك السياسة والعمل الوطني والنضال السياسي عبر مجموعة من المشاركات في عدد من المنظمات المهنية والإبداعية، وفي مواقع يمنية وعربية. وفي هذه الفترة، أتابع نشاطه الوطني في سبيل إحلال السلام؛ حيث يعمل جاهداً منذ بداية الحرب، مع مجموعة من المناضلين المدنيين والعسكريين، من أجل إعادة الأمن والاستقرار لليمن، التي أحبها وسكنت في وجدانه، لقناعته أن استمرار الحرب دمار وخراب، وأن السلام والحوار هو الطريق السليم لاستعادة الوطن وقيام الدولة المدنية المنشودة.
خلال الأيام الماضية، سعدت بإرساله لي نسخة من  كتابه الجديد وديوانه الأول، الذي حمل عنوان (أفلا أُجنُّ)، واكتشفت فيه شاعراً كبيراً مرهفاً، إلى جانب كونه المؤرخ والكاتب والمحلل السياسي المخضرم. 
الحقيقة، وأنا اقرأ في قصائد الصايدي، ذهلت من تمكنه، نظماً ونثراً، وكيف لمثل هؤلاء أن تسرقهم منا الأيام وانشغالات الحياة.
صحيح أن الشعر ليس تخصصاً بقدر ما هو ملكة وحضور يعكس صوراً ومشاهد وقضايا وأحاسيس، ويعبر بشكل أو بآخر عن هموم ومشاغل وأفكار ورغبات، وأن هناك أطباء شعراء ومهندسين أيضاً وعلماء اجتماع وسياسة، لكن الصورة التي عليها صاحب هذا الديوان تحيلنا، كمتذوقين للشعر والأدب، إلى تساؤلات عديدة يجيب عنها المعني بها.
في قصائده العمودية الكلاسيكية الجزلة، تشعر أنك أمام شاعر رافق المتنبي وأحمد شوقي والجواهري، ثمة فن متقن لغة وصور وقافية.
أغلب قصائد الديوان عكست الهم الذي يحمله الرجل تجاه قضايا يومية وأخرى مصيرية، منها الموت والكرامة ورحيل الأصدقاء. تلك الإشارات نجدها في عناوين القصائد وفي السياق أيضاً؛ وكأن الرجل كان يعيش حالة استثنائية من الأوجاع.
ولأنه ارتبط باكراً بقضايا الوطن والأحداث التي رافقت ستة عقود خلت على الأقل، فقد أتت القصائد تعبيراً عما يحمله الرجل من هموم، سواء كان شاعراً أو سياسياً أو أكاديمياً. 
في حقيقة الأمر، يحتاج الديوان إلى وقفات عديدة، وهو توثيق لمراحل مختلفة قبل أن يكون أدباً خالصاً. كما أنه يشكل إضافةً إلى المشهد الشعري، وإن تأخر كثيراً.
تضمن الديوان مجموعة من القصائد كتبت في فترات زمنية مختلفة، ولكن لم يتم نشرها من قبل. وقدم للديوان صديقه وأستاذنا الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح، أطال الله عمره.
تمنياتي لأستاذ الجيل الدكتور أحمد قايد الصايدي بدوام التوفيق، وأعانك الله وأطال في عمرك ومتعك بالصحة والعافية وراحة البال، وزادك علماً ونفع بك الأمة.