أكذوبة "الأمن الثقافي" الكبرى

03:00 2022/06/19

كلما كثر الحديث عنه قلت حرية الإبداع وزادت الرقابة وازدهرت الشعارات والبروباغندا

كل مجتمع يكون فيه حس المواطنة حاضراً إلا ويكون ذلك متوازياً مع هاجس البحث عن الأمن الغذائي، وهذا موقف صحي ويجب تثمينه والدفاع عنه، فالمجتمع أو الأمة التي لا تستطيع أن تؤمن قوت أبنائها لا تستطيع أن تؤمن كرامة المواطن فيها، فالمناعة الأولى لأي أمن هو التخلص من الجوع، بمعناه المادي أولاً ثم الرمزي ثانياً، لكن الجوع المادي يختلف عن نظيره الرمزي أو "القيمي". 

البلد الذي يأكل من بطاطا وبصل تنتجها أيادي غيره، ومن أرز غيره وقمح غيره وعدس غيره مع أنه بإمكانه أن ينتج ذلك أو ينتج ما قد يعوض عن ذلك أو يكون بديلاً عنه، هذا البلد معرض للخراب والانحلال.

البلد الذي لا يحقق أمناً مائياً لشرب مواطنيه ولسقي مشاريعه الزراعية ولحاجته الصناعية يرهن مستقبله للإفلاس والاضمحلال والحرب الأهلية والمجاعة، فالذهب الأزرق لا يمكن العيش من دونه، ولا حضارة من دون ماء، والبلد الذي تمطر السماء فيه وتجري فيها الأنهار وتحيط به البحار ويموت مواطنه عطشاً هو بلد سائر نحو التخلف والحرب والاندثار والتفكك.

والبلد الذي لا يحقق أمناً صحياً لمواطنيه بتكوين جيوش من نساء ورجال السلك الصحي من الأطباء والمساعدين بما يضمن الصحة والرعاية الفردية والجماعية، ويؤمن صناعة أدويته وينجز بحوثه في مخابر منافسة ومساهمة في البحث الصيدلاني والطبي، ويبني مستشفياته الراقية، هذا البلد يظل مريضاً، لأن صحة البلد سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً من صحة مواطنيه الجسدية والعقلية. 

كل شيء ممكن، فكلمة "المستحيل" مفهوم يعتصم به الكسالى والأغبياء وفاقدو الموهبة، "المستحيل" مشجب يعلق عليه فاقدو الذكاء جهلهم وخيبتهم، يمكن أن نقوم ببرنامج زراعي متطور بالتالي نضمن أمناً غذائياً، جزئياً أو كلياً، حسب طبيعة البلد أرضاً ومناخاً وشفافية في التسيير، وصرامة في احترام شروط النهضة الفلاحية، نقيم أمننا المائي بالاستثمار في البحار، والأنهار وما تدر به السماء من أمطار، وقد ينجح البلد إن جزئياً أو كلياً في هذا الأمن المائي، نؤسس أمننا الصحي بضبط مجموعة من الآليات سواء في الرعاية الصحية والوقاية والمتابعة والاستشفاء، وقد تنجح العملية بالنظر أيضاً إلى الإمكانات المادية والبشرية ولكنها في كل الحالات ممكنة، لأنه إذا ما توفرت الإرادة الفردية والجماعية تصبح جميع الشروط المادية والتكوينية قابلة للتحقق طال الزمن أم قصر.

إذا كانت المجتمعات جميعها، أو على الأقل تلك التي يكون فيها تدبير الشأن العام موكلاً لنظام سياسي عادل وواع للعبة الاستراتيجيات الدولية، تبحث عن أمن غذائي وصحي ومائي وهذا مشروع وواجب وضروري واستراتيجي، فهل يمكننا أن ندرج هاجس الأمن الثقافي في هذه الخانة ونعده واحداً من الأمن الذي على المجتمعات تحقيقه؟ وما معنى الأمن الثقافي؟ هل هناك أمن ثقافي أصلاً كما هو الأمن الصحي والغذائي والمائي؟ هل مقاربة ظاهرة الأمن الثقافي تكون بذات الطريقة التي نقارب بها معالجة الأمن المائي والغذائي والصحي؟

نقلا عن اندبندنت العربية