محاولة للتفسير

11:00 2022/03/08

تضمنت المقالة السابقة نقداً ذاتياً لنتائج التحليل الذي تضمنته مقالاتي الأربعة السابقة على تفجر الصدام العسكري في الأزمة الأوكرانية، من منظور أنها وإن تنبأت آخرها بتدخل عسكري روسي محسوب يقتصر على الجمهوريتين الانفصاليتين، إلا أنها أبقت على استبعاد سيناريو العمل العسكري الشامل، وحاولت تفسير هذا الإخفاق بصعوبات التنبؤ في التحليل السياسي عامة.. وانتهيت إلى أنني سوف أجتهد في هذه المقالة في تقصي أسباب الإخفاق في التنبؤ بعملية عسكرية روسية شاملة. وأبدأ باللجوء لافتراض الرشادة في صانع القرار، بمعنى أن المحلل يتنبأ بالسلوك الذي يتصوَّر أنه الخيار الرشيد لصانع القرار، ومن هنا تبدأ المشكلة حيث إن مفهوم الرشادة أولاً ليس متفقاً عليه، وقد نفهمه على أن القرار الرشيد هو الذي يحقق أعلى عائد وينطوي على أقل تكلفة. وفي هذا الإطار كان العمل العسكري المحدود في شرق أوكرانيا هو الأكثر رشادةً، أولا لأنه سيحتاج قوات وموارد أقل، وثانياً لأنه بالتأكيد سيحدث اختلافات بدرجة أو بأخرى في معسكر خصوم روسيا بخصوص العقوبات، وقد طرح الرئيس الأميركي مرةً فكرة أن العقوبات سوف تتناسب طردياً مع نطاق العمليات العسكرية، بما أعطى الانطباع بأن عملاً عسكرياً روسياً محدوداً في شرق أوكرانيا قد يكون بمنأى عن العقوبات الشديدة. لكن المشكلة هنا تكمن في صعوبة التحليل الدقيق لإدراك صانع القرار مدى أهميةَ المصالح المُتَضَمَنة في أزمة ما وحيويتها، لأن المصالح فائقة الحيوية قد تعني أن الدفاع عنها حتمي حتى ولو كانت التكلفة باهظة. ولنفترض، لتوضيح الفكرة، أن دولةً تتعرض لغزو أجنبي من دولة تفوقها قوةً بوضوح، فهنا قد يرى صانع القرار أن الدفاع عن استقلال بلاده له الأولوية على كل شيء، حتى ولو كانت تكلفته باهظة. والواقع أن الخطاب السياسي لبوتين بتاريخ 21 فبراير الماضي، والذي كتبت مقالتي قبله بيومين، كان حاسماً في بيان الخطورة الشديدة من وجهة نظره للتهديدات التي تنطوي عليها الأزمة الأوكرانية لأمن بلاده، ناهيك بالأبعاد التاريخية التي تحدث عنها بخصوص موقع أوكرانيا من الكيان الروسي.

وقد ساعدت الخبرة الماضية حول سلوك الرئيس بوتين على ترجيح فكرة العمل العسكري المحدود، كما حدث في عام 2008 مع أوسيتيا الجنوبية وفي عام 2014 مع شبه جزيرة القرم. ولا يمكن الجزم بالأسباب التي جعلته يتجاوز نموذج الخبرة الماضية، لكنها قد تكون التفاقم الشديد للأزمة هذه المرة على ضوء التصعيد الواضح من قِبَل الرئيس الأوكراني، وبالذات عندما لوَّح بإمكانية لجوء بلاده لبناء خيار نووي عسكري، خاصة وأنها تملك منذ الحقبة السوفييتية القدرةَ العلميةَ والتقنيةَ والبنيةَ التحتيةَ اللازمةَ. وتُثار أيضاً في هذا السياق أفكارٌ أخرى منها أن بوتين كانت لديه خطة استراتيجية من البداية للقيام بعمل جذري لمواجهة ما يعتبره وضعاً غير مقبول في أوكرانيا.. وإن كان يقلل من هذا الاحتمال أن الرجل حاول غير مرة التوصل إلى تفاهم مع «الناتو» وأوكرانيا ذاتها للتوصل لترتيبات مرْضية لجميع الأطراف. كذلك أُثيرت فكرة «الاستدراج»، وهي فكرة شائعة في إدارة الصراعات الدولية مفادها استدراج الخصم لصراع يستنزفه أو يبرر توجيه ضربة له.. وقد أُثيرت هذه الفكرة مثلاً في واقعة غزو صدام حسين للكويت، حين أجابت السفيرة الأميركية في بغداد على سؤاله بشأن الموقف الأميركي من الأزمة، بأنه لا توجد اتفاقية دفاع مشترك بين بلدها والكويت، ففهم أن الولايات المتحدة لن تتدخل وأقدم على الغزو. وفي حالتنا يكون استدراج روسيا قد تم بالتأكيد على أنه لا الولايات المتحدة ولا «الناتو» سوف يتدخلان عسكرياً في حال نشوب صراع، مما أغرى موسكو بالإقدام على عملية عسكرية شاملة.. والله أعلم.

استاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة - نقلا عن الاتحاد