كيف فكر الرئيس صالح في دواعي الميثاق والمؤتمر؟(3)

01:01 2020/08/23

انتهينا في المقال السابق إلى القول إن الرئيس صالح أصدر قرارا تم بموجبه إسناد مهمة إضافية إلى اللجنة العليا للانتخابات المحلية أو البلدية، وكانت تلك المهمة هي الإشراف على انتخاب ممثلي المواطنين إلى المؤتمر الشعبي العام الذي سيلتئم لاحقا لمناقشة مشروع الميثاق الوطني وإقراره بصورته النهائية، وعلى وجه الدقة سيتعين انتخاب 70 في المائة من اجمالي المندوبين للمؤتمر الشعبي العام المعني بمناقشة وإقرار الميثاق الوطني.. ويشير هذا إلى أن مشروع الميثاق قد سبق تلك الانتخابات، فكيف جاء هذا المشروع؟  
 
لقد شكل الرئيس علي عبد الله صالح - بعد أشهر قليلة من انتخابه- لجنة تضم شخصيات سياسية، واجتماعية، وفكرية، وعسكرية، ورجال دين، كان معظمهم أعضاء في مجلس الشعب التأسيسي، ولم يكن بينهم امرأة. وأسند القرار الرئاسي لهذه اللجنة مهمة وضع مسودة ميثاق وطني جامع يتضمن أفكارا جديدة ومستوحاة من التجارب التاريخية للشعب اليمني وثقافته بالدرجة الأولى، بحيث تغدو هذه المسودة موضوعا لحوار حر يقود إلى وضع مشروع ميثاق وطني، يتم في ما بعد طرحه للنقاش في مختلف المستويات.. 
 
اجتمع الرئيس بهذه اللجنة يوم 10 أغسطس 1978، وشدد على رجالها ضرورة أن يدركوا خطورة هذه القضية، والعمل لها بإخلاص لأهمية إيجاد وثيقة وطنية تتفق عليها مختلف التيارات السياسية والفكرية والاجتماعية، وأكد في الوقت نفسه تمسكه بمبدأ المشاركة السياسية، وتطوير النهج الديمقراطي في البلاد (والذي لم تكن قد شاهدته البلاد حتى ذلك الوقت في الحقيقة).. 
 
وبحلول 25 ديسمبر، قدمت هذه اللجنة لرئيس الجمهورية مسودة أولية لمشروع ميثاق وطني، وقرر من جانبه طرحها للنقاش في اجتماع ضم رئيس الحكومة، والوزراء، والمستشارين، ومحافظي الألوية(حسب التقسيم الإداري القديم (كانت المحافظة تسمى لواء، لواء تعز، لواء صنعاء وهكذا)، وقيادات الهيئة العليا للاتحاد العام للتعاون الأهلي للتطوير، إلى جانب بعض القيادات السياسية والعسكرية، وقدم المجتمعون- خلال النقاش- آراء وأفكارا ذات صلة بمحتوى تلك المسودة، واستمعت إليها اللجنة نفسها التي حضرت هذا الاجتماع، ثم قامت بإضافتها إلى تلك المسودة الأولية.. 
 
ومن المناسب أن نوضح هنا أن هذه اللجنة التي شكلها الرئيس كان يترأسها عبد الله عبد الوهاب الشماحي وهو قاض ومؤرخ ومناضل سابق في حركة الأحرار، ثم بعد ذلك أضيف إليها 7 أعضاء آخرين، ثم 23 عضوا من خارج مجلس الشعب التأسيسي، فأصبحت مكونة من 55 عضوا بينهم برلمانيين، وقيادات سياسية واجتماعية، وعسكريين ورجال أعمال، وقد بينا قبل أن هذه اللجنة هي التي وضعت المسودة الأولية لمشروع الميثاق، والتي ستنظر من قبل لجنة أخرى هي لجنة الواحد والخمسين التي سنأتي على ذكرها.
 
في أواخر ذلك العام، وبداية العام الجديد 1979، كانت الأزمة  السياسية بين النظامين في صنعاء وعدن تزداد حدة، ولعبت أطراف خارجية دورا أساسيا في تصعيدها إلى حرب، وهذا ما حدث بالفعل حيث بدأت الحرب الشاملة في أواخر شهر فبراير، وتمكنت القوات الجنوبية وقوات المعارضة الشمالية (الجبهة الوطنية الديمقراطية)، من التوغل داخل الأراضي الشمالية بسرعة غير متوقعة، فقام الرئيس علي عبد الله صالح بجولة عربية  شملت سوريا والجزائر- وهما قويتا الصلة بالنظام في عدن- يطلب التدخل لوقف تقدم تلك القوات وعودتها إلى مواقعها قبل الحرب.. استطاع  الرئيس التغلب على الموقف بعد القيام بتلك الجولة التي كسب من خلالها بعض الدعم العربي لوقف المعارك، بتدخل جامعة الدول العربية التي عقد مجلسها الدائم جلسة طارئة في الكويت (4- 6 مارس)، ثم استضافت دولة الكويت لقاء قمة (28- 30 مارس) بين الرئيسين علي عبد الله صالح، وعبد الفتاح إسماعيل اللذين توصلا خلالها إلى وقف الحرب والعودة إلى الحوار حول إعادة تحقيق الوحدة اليمنية. 
 
لقد كانت قضية الوحدة اليمنية العنوان الرئيسي لمباحثات الرئيسين صالح وإسماعيل، حيث تم الاتفاق على إعادة تنشيط اللجان الوحدوية المشتركة التي شكلت من مسئولي الشطرين بموجب بيان طرابلس 1972، للعمل من أجل تنفيذ الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها من قبل الرؤساء السابقين، ورؤساء الحكومات في الشطرين، حول إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، وتم الاتفاق بصورة أساسية على استئناف عمل اللجنة الدستورية لوضع مشروع دستور دولة الوحدة، والذي انتهت اللجنة من صياغته وإقراره بالفعل عام 1981.
 
كانت اتفاقيات الوحدة قد تضمنت ما نصت عليه المادة التاسعة في إعلان طرابلس عام 1972، بشأن التنظيم السياسي الذي سيتولى السلطة في دولة الوحدة، وبينما كان الحكم في الجنوب يدار من قبل حزب سياسي وحيد ومحدد الهوية، هو الحزب الاشتراكي اليمني، كان الدستور في الشمال يحظر تشكيل الأحزاب السياسية، رغم أنها كانت قائمة بالفعل منذ خمسينيات القرن العشرين، ولكن نشاطها كان سريا بحكم الحظر الدستوري، ونظرا لوجود تنظيم سياسي في الجنوب، ولمقتضيات بيان طرابلس، توجه الرئيس علي عبد الله صالح نحو التفكير بتشكيل كيان سياسي أو تنظيم سياسي حاكم، في صنعاء، ولكن كان يتعين قبل ذلك إيجاد دليل نظري لهذا الكيان، وهذا ما جعل فكرة الميثاق الوطني تصبح أكثر إلحاحا.. في ديسمبر 1979 تحدث الرئيس صالح  لصحيفة التصحيح، وقال: سوف تنجز مسودة مشروع الميثاق الوطني قريباً، وستشترك مختلف قطاعات الشعب في مناقشة مسودة الميثاق، ثم سندعو إلى مؤتمر شعبي عام لإقراره بصيغته النهائية. 
 
بعد فترة قصيرة على انتهاء تلك الحرب، ومقررات قمة الكويت، اتجه الرئيس علي عبد الله صالح نحو ترتيب الأوضاع الداخلية أو توحيد الجبهة الداخلية التي كانت مفككة جراء السياسات التي اتبعها أسلافه، وهي سياسات عرقلت التنمية، وأشاعت الخلافات والاضطرابات السياسية بسبب الاستبعاد السياسي والتفرد بصلاحية صنع واتخاذ القرار.. وكان من بين القضايا التي ركز عليها الرئيس استئناف الحوار في صنعاء حول إيجاد مشروع الميثاق الوطني.. وانطلاقا من المشروع أو المسودة الأولية التي أشرنا إليها قبل، طورت فكرة الحوار في عام 1980 لتشمل مشاركة مختلف القوى السياسية في صنع هذا الميثاق، حيث أصدر الرئيس علي عبد الله صالح قرارا ( قرار رئيس الجمهورية رقم 50 الصادر بتاريخ 27 مايو 1980) بتشكيل لجنة الحوار الوطني، وهي لجنة الواحد والخمسين التي أشرنا إليها قبل، وأسندت رئاسة هذه اللجنة إلى حسين عبد الله المقدمي (وهو من المناضلين المخضرمين، وتولى في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي رئاسة ما كان يعرف باللجنة العليا للتصحيح المالي والإداري)، وكانت مهمة اللجنة- وفقا للقرار-  توسيع دائرة المشاركة في الحوار، حول مشروع الميثاق الوطني، ثم التهيئة لعقد مؤتمر شعبي عام لمناقشة مشروع الميثاق وإقراره بصورته النهائية. 
 
كانت هذه اللجنة مكونة من رجال ينتمون إلى أحزاب متعددة ومختلفة، لذلك اتفقوا في البداية على أن الحوار بينهم يجب أن يتم في ظل مبادئ أسياسية أهمها الاعتراف بأن الاختلاف بين التيارات السياسية المتعددة أمر يجب التسليم به، ولا بد من احترام حق التعبير عن الرأي الآخر، وأن هناك قضايا محددة ليست موضوعا للخلاف مثل السيادة والوحدة الوطنيتين، والنظام الجمهوري وأهداف ثورة 26 سبتمبر، وأنه يجب التركيز على القضايا محل الاتفاق وتجنب التعصب في مناقشة القضايا موضوع الخلاف، لكي يتم التوصل إلى ميثاق وطني يعبر عن إرادة الجميع.. وبالرغم من أن الحزبية في شمال اليمن كانت محظورة بنص دستوري كما أسلفنا، فقد تصرف الرئيس علي عبد اله صالح خلاف ذلك.. تصرف حول قضية ملحة كهذه تصرف رجل دولة، فشكل لجنة الحوار الوطني من 51 عضوا ينتمي معظمهم إلى أحزاب سياسية مختلفة ومتصارعة.. ففي ضوء خبرته السياسية وما أفاده من تجارب الحكام الذين سبقوه حرص الرئيس صالح على مشاورة مختلف الأحزاب التي كانت تعمل بصورة سرية، وقد ضمت اللجنة أيضا عددا من المثقفين والمفكرين والشخصيات الاجتماعية وممثلي القطاع التجاري، ونظمهم حول مائدة حوار حر للوصول إلى وثيقة وطنية مكتملة تجمع بين ما هو مشترك في الثقافة الوطنية، والإفادة من الفكر السياسي الإنساني، واستيعاب القضايا المطلبية لكل هذه المجموعات، وهذه الوثيقة هي الميثاق الوطني المنشود، كما حرص على أن تتفق جميع هذه الأطراف على جعل هذا الميثاق دليلا نظريا لعمل مشترك وتضامني في الفترة القادمة، ووضعه موضع التطبيق في الممارسة السياسية بالدرجة الأولى.. وقد قال الرئيس على عبد الله صالح: "لقد كان في طليعة همومي- منذ الأيام الأولى لتحملي أمانة المسئولية الجسيمة وقيادة الشعب والثورة في 17 يوليو 1978- العثور على صيغة مثلى تحقق التفاعل الجاد مع مبادئه وقيمه وأهداف ثورته..
 
صيغة تعيد تحريك وجوده، وترسيخ قواعد الديمقراطية والعدل الاجتماعي في صفوفه، توجهاً لبناء الدولة المدنية الحديثة، المتلاحم أبناؤها، المتواصل حاضرهم الناهض بماضيهم العريق، بصورة تمكنهم من تحديد معالم المستقبل المشرق الذي يلهم بالإجابة عن كل التساؤلات التي تطرحها ذاتيتنا الحضارية وموقعنا من العالم، ومن هنا فقد ارتأينا ضرورة تشكيل لجنة موسعة من المثقفين والمفكرين ومن أعضاء مجلس الشعب التأسيسي ومن العسكريين وغيرهم لإعداد تصور عام لأفكار الميثاق الوطني ومضامينه، مستقى من مختلف فئات الشعب وتوجهاتها، حرصاً على ألا يفرض ميثاق يأتي من فئة أو جماعة، أو يملى من فرد أو سلطة، بل ميثاق تجمع عليه كل الأفكار والطموحات الشعبية يجسد إرادة الشعب واختياراته".. على أنه يمكننا التأكد من مشاركة الأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية المختلفة، في هذه اللجنة، ومن خلال العودة إلى الخلفيات السياسية والاجتماعية لأعضاء هذه اللجنة لذلك حرصنا على ذكر أسمائهم في هامش هذا المقال، ويمكن للمرء ملاحظة أنهم كانوا يتوزعون على تنظيمات وأحزاب سياسية: الإخوان المسلمون، البعث، الناصري، الجبهة الوطنية الديمقراطية، الاتحاد اليمني السابق والقوى الشعبية، مستقلون. 
 
خلال الشهور يونيو - ديسمبر 1980 عقد الرئيس علي عبد الله صالح مع هذه اللجنة سلسلة اجتماعات لمتابعة ما تنجزه، وحثها على الإسراع في إكمال مهمتها الوطنية، وضرورة الانفتاح على مختلف الفعاليات الجماهيرية والاجتماعية والمواطنين لإشراكهم في الحوار حول الميثاق مع تأكيده على اللجنة احترام حق المواطنين في التعبير عن آرائهم بحرية، ولهذا الغرض شكلت لجنة الحوار الوطني لجانا فرعية، تعمل تحت إشرافها، لتنظيم مؤتمرات شعبية مصغرة على مستوى المديريات ومراكز المحافظات، وتم الشروع في ذلك ابتداء من منتصف ديسمبر 1980، وقد عرض في هذه المؤتمرات مشروع الميثاق الوطني، واستمرت تلك الفعاليات الشعبية في مناقشاتها إلى نهاية شهر أبريل 1981، وساد النقاشات حماس كبير بفعل تنافس مختلف القوى السياسية على إظهار تأييدها لمشروع الميثاق ووضع بصماتها الثقافية عليه، وجرت محاولات من أجل التوفيق بين الآراء المتصارعة حول فهم المشكلات وسبل تجاوزها وإعادة النظر فيها، وبعد مناقشات ومداخلات وحجج وشواهد من الواقع واستدعاء تجارب تاريخية وفكرية وفلسفية ساهمت في إثراء مشروع الميثاق الذي توصلت اللجنة إلى صيغة غير نهائية له بعد طرح موضوعه للمناقشة العامة في مؤتمرات شعبية مصغرة، ثم أعادت اللجنة صياغته على ضوء الأفكار التي استقتها من الجمهور، ثم أعيد طرحه مجدداً على ممثلي الشعب في المؤتمر الشعبي العام في أغسطس 1982، فأعيدت عملية الصياغة، ومن ثم أقر بصيغته النهائية من قبل المشاركين في المؤتمر الشعبي العام.. هل كان هذا الميثاق من صنع نخب، أم شاركها الجمهور في ذلك؟ وإن شاركها فما نوعية دوره في هذا صنع الميثاق؟ سنجيب عن هذين السؤالين في المقال التالي. 
 
هامش 
 أعضاء اللجنة المشار إليها أعلى هم: حسين عبد الله المقدمي، أحمد الشجني، عبد الواحد الزنداني، محمد عبد الله الفسيل، سنان عبد الله أبو لحوم، أحمد يحيى العماد،علي قاسم المؤيد، محمد بن محمد المنصور، أحمد علي المطري، أحمد جابر عفيف، أحمد قاسم دماج، عبده علي عثمان، حمود عاطف، عبد الله البشيري، يحيى الشامي، أحمد سالم العواضي، صالح عباد الخولاني، عبد الجليل الماوري، إسماعيل الفضلي، أبوبكر السقاف، صادق أمين أبو راسس، محمد علي الربادي، حمد الخطابي، عبد الله عطية، عبد الملك منصور، إبراهيم محمد الوزير، يحيى عبد الله الشائف، علي أحمد السياني، محمد المحطوري، عبدالسلام خالد كرمان، أبوبكر القربي، حمد شمسان الدالي، علي عثرب، أحمد محمد لقمان، محمد إسماعيل النعمي، عبد الله الحزورة، محمد عبد الله الجائفي،  يحيى البشاري، علي يحيى العاضي، عبد القوي الحميقاني، سليمان الفرح، حسن جار الله، أحمد هائل سعيد انعم، عبد الحميد سيف الحدي، قائد عبده الحروي، عبد الله سلام الحكيمي، علوي حسن العطاس، عبد الواحد هواش، محمد محمد النزيلي، علي عبدربه القاضي، محمد الشيباني.