المؤتمر والشفرة اليمانية

10:12 2020/08/21

تفصلنا يومان عن الذكرى الثامنة والثلاثين لتأسيس المؤتمر الشعبي العام لتعطينا دفعة جديدة للتأمل في سر بقاء المؤتمر خيارا وطنيا يمنيا استمر لعقود، ومازالت الأحداث  والواقع اليمني يؤكدان الحاجة إليه، على الأقل في المدى المنظور كحزب، وعلى المدى الطويل كرؤية لامست عمق الهوية اليمنية في طابعها التعايشي والتسامحي.
 
اليمن بحكم موقعه بين قارتين وإطلالته على بحرين تهيأ بشريا لاكتساب هوية قائمة على المرونة والتسامح، ولفظ النزعات التطرفية في أي اتجاه التي إن اشتعلت فسرعان ما تنطفئ ويعود ميزان التعايش للعمل مجددا.
 
أثر الموقع الجغرافي على الطبيعة السكانية من عدة نواحٍ ساعدت جميعها في بناء الشخصية اليمنية المعتدلة فصارت اليمن عبر التاريخ، حتى في عصور الإنسانية الأولى، أحد أهم ممرات الانتشار البشري على الأرض من شرق إفريقيا التي يُعتقد أنها مهد لإنسان، ما منح السكان المستقرين نسبيا في جنوب غرب الجزيرة العربية مجالا احتكاكيا واسعا بثقافات إنسانية تنوعت خلال الأزمان.
 
وعندما ظهرت التجارة توافرت فرصة أخرى للمزيد من التعاطي مع الحضارات البشرية، شرقا وشمالا وغربا، فكانت حضارات الازدهار اليمنية وبمقدمتها المعينية والسبأية حضارات تجارية في الأساس غرست في سكان العربية السعيدة مرونة في التعامل مع أجناس بشرية مختلفة.
 
بجانب ما سبق أتاح موقع اليمن وانفتاحه على البحر أن تكون هذه المساحة الجغرافية ملتقى لاختلاط وتمازج شعوب من ثقافات متعددة تنازل كل منها، بتأثير المزاج المعتدل للسكان الأصليين، عن مجالات الاختلاف لصالح التقارب فالذوبان في هوية يمنية متوسطة، لتستوعب اليمن أفارقة وهنود ويونان ورومان وأكراد وأتراك وفرس، تمازجوا أجناسا وثقافات.
 
حتى في الناحية الدينية استطاع اليمن أن يقدم نموذجا للتعايش دون صدامات مهمة، إن حدثت فليست بحوافز الدين بقدر ماكانت بدوافع سياسية، فتجاور على هذه الأرض اليهودية والمسيحية وعبادة الأصنام والنجوم، وبعد الإسلام اختار اليمنيون مذاهب عقائدية وفقهية معتدلة رغم تنوعها بين الأصلين السني والشيعي، فكانت الثقافة الوسطية هي كلمة السر في الهوية اليمنية التي مكنت أبناءها ، في لحظات تجلياتها، من الاستقرار والتقدم نحو الرخاء، على قلة الموارد الطبيعية الاقتصادية.
 
ما علاقة المؤتمر ابن الأربعة عقود بهوية تمتد ثلاثين إلى أربعين قرنا؟ إنها قدرته على التقاط الشفرة اليمانية وإعادة الاعتبار لها في القرن الأخير، حيث جمع الأطياف السياسية والاجتماعية في أغسطس 1982 في بوتقة تشاركية واحدة تجاوزت البنى التطرفية للأحزاب السياسية المتناحرة حينها، وعكسها خارجيا بإقامة علاقات متوازنة إقليميا ودوليا.
 
بالإمكان أخذ العقدين، السابق واللاحق، لحكم المؤتمر ومقارنتها بعهده في أي مجال خصوصا السياسي في نطاق السلم الداخلي والسلام الخارجي، والاقتصادي في حيزه التنموي بالداخل والعلاقات التجارية بالخارج.
 
بدون المؤتمر يبدو المشهد السياسي بعد الحرب مخيفا في ظل استحواذ سياسي وجماهيري لمكونات دينية، حدية الرؤى تتنازع الأرض باسم السماء معززة بزمجرة السلاح الذي سيحتاج وقتا ليرجع إلى احتكار الدولة، يقابلها ضعف الحالة السياسية في إنتاج قوى ليبرالية معتدلة في المستقبل القريب والعودة إلى التموضع داخل الدائرة الوسطية للهوية اليمنية.
 
كلمتا التسامح والتعايش تبدوان خفيفتين على اللسان لكنهما ثقيلتان في الواقع بدلالة ما نجم عن طرحهما من المشهد منذ أزمة 2011 حتى اللحظة، من ثمن باهظ دفعه اليمنيون وسيعانون آثاره لسنوات مقبلة، لذلك نقول بفم ملآن: سلام الله على المؤتمر الشعبي العام في ذكراه 38.