06:19 2020/06/07
08:27 2019/07/21
08:25 2019/06/19
مادّية الواقع اليمني تكبح "كهنوت" الأئمة
07:51 2020/06/20
أشار البردوني في كتابه "اليمن الجمهوري" إلى ما وصفه بـ"مادية الواقع اليمني" التي جعلت هذا الواقع في حالة من التعارض مع نظرية الهادي بن الحسين في الحكم. فتلك النظرية "المثالية"، حسب تعبير البردوني، "جابهتْ مادية الواقع اليمني الذي كانت تحكمه عدة أنظمة: كالزيادية في تهامة والمرتبطة اسمياً بالخلافة المركزية في بغداد، واليعفريين في شبام، والدعاميين في همدان، وعلي بن الفضل في مذيخرة، إلى جانب رئاسات عشائرية: كالياميين في نجران، وأشباههم في خولان".
غير أن البردوني لم يبيِّن ما يعنيه بـ"مادية الواقع اليمني"، واكتفى بالإشارة إلى أبرز تعبيراتها التاريخية المتمثلة في التشرذم السياسي. لهذا قد يكون من الجيِّد الاستعانة بملاحظة حمود العودي الممتازة عن التكافؤ في علاقة الإنسان اليمني بالأرض، وكيف حرَّره هذا التكافؤ من سطوة الغيبيات:
"التكامل والتكافؤ فيما بين الإنسان والأرض كأساس جوهري لاستمرار البقاء، لم تدعْ لـ(الإنسان اليمني) فرصة للغلو فيما وراء الطبيعة والميتافيزيقيات لكي يشكرها ويعبدها على ما تفيض به عليه من وافر الخير الكثير بدون أيّ عمل يُذكَر على غرار ما حدث في وادي النيل ودجلة والفرات وغيرها من مناطق الحضارات النهرية القديمة والحديثة".
فهذا التكافؤ والتوازن العجيب، بحسب العودي، بين عطاء الطبيعة وما يتطلّبه من جهد إنساني مباشر ومكثَّف قد حال دون أيّة فرصة تُذكر لانتشار الوسائط الغيبية والميتافيزيقية من عقائد وأساطير وغيرها (...) أيّ أن الظروف الطبيعية والبيئية اليمنية تستطيع أن تعطي بقدر ما يُبذَل فيها من جهد"، (العودي، "المدخل الاجتماعي في دراسة التاريخ والتراث العربي.. دراسة عن المجتمع اليمني"، ص44 و45).
ما يمكن فهمه من كلام العودي أن الظروف في اليمن هي من الصعوبة بحيث لا يبقى معها للإنسان متَّسع للعناية بمشاغل الروح وعبادة الأفكار المجرَّدة. ورغم أن الدِّين والروحانية مكوِّنان أساسيان في الحضارة اليمنية قبل الإسلام وبعده، إلّا أن التاريخ هنا يتحرّك في معظم الأحيان بقوة دفع من الضرورات المادية القصوى، ولا تلعب الأفكار والعقائد المجرَّدة إلّا دوراً ثانوياً في الصيرورة التاريخية. ليس لدى اليمني فائض من الشكر والامتنان يزجيه لقوى عليا غير مرئية مقابل الوفرة واليُسر. فهو لم يجرّب الوفرة ولم يجرّب اليُسر. إنّه يتعبَّد ويشكر السماء بالتأكيد، لكن ليس بإفراط لأنّ حظّه لا يساعده على الإفراط.
هل يصح تعميم هذه الملاحظة، وهذا الحكم، على كل اليمن في كل الأوقات؟ أم على أجزاء من اليمن فقط؟
على وجه الإجمال، الطبيعة قاسية في اليمن، سهوله وجباله وصحاريه. لكن يختلف مقدار الجهد المبذول في تطويعها من منطقة إلى أخرى، مع الاختلاف في مقدار العائد من الجهد. ومع ذلك لا أحد يستطيع الجزم بأن شِدّة ووعورة الأرض وقلّة خصوبتها تشكِّل دائماً بيئة غير صالحة بالمطلق لنمو أنواع من الخرافة والسحر وما يسمّى بـ"العقائد الغيبية"، أو أن الحياة والتفكير في بيئة كهذه أكثر حسِّية وأكثر معقولية على الدوام.
ثم هل "التكافؤ" هي الكلمة المناسبة لوصف العلاقة بين الإنسان والأرض في اليمن؟ أم أنّ "الغَلَبة" للطبيعة أحياناً؟ فهي قاسية وشحيحة وعصيَّة على التذليل والتطويع.
إنّ القول بـ"مادية الواقع اليمني" هو حديث عن خاصية سرمدية، عابرة للعصور، (لا تاريخية)، أي عن حتمية طبيعية مؤثّرة في تشكيلات المجتمع وفي توجيه الحوادث التاريخية. وهذا القول يشتمل على قدر كبير من الحقيقة، وخصوصاً في الموضع الذي استخدمه به البردوني كمقابل مضاد لمثالية رسالة الهادي يحيى بن الحسين (مثاليتها بمعنى تعاليها على حقائق وإمكانات الواقع العياني)، ومضاد لتعاليمه اللاهوتية وأهدافه الطموحة لمنافسة مركز الخلافة العباسية. ينطبق ذلك، بطرق مختلفة، على معظم الأئمة والدعاة الهادويين الزيديين.