اللَّونُ المفقودُ في حكومة بن بريك
من الأصول الدستورية والأعراف السياسية التي ينبغي أن تؤخذ في حسبان أي تشكيل حكومي، أصلان : الأول توافر الكفاءة المهنية ولو في مستواها الأدنى لتولي المنصب الوزاري، وصحيح أن تلك الفئة من المناصب يغلب عليها الطابع السياسي أكثر من الطابع الفني البحت، كونها تدخل في سياق ما يعرف بـ "الوظيفة الحكومية" أو وظائف السلطة العليا التي يناط بها رسم السياسة العامة للدولة، وتحتاج إلى خبرة السياسة وكاريزما القيادة أكثر من حاجتها لمؤهلات الوظيفة الإدارية المتخصصة في جوهرها تخصصاً يوجب تلازم التشديد في توافر المؤهلات المهنية لمن يتقلدها من ذوي الكفاءات المتخصصة كوكلاء الوزارة ومدراء العموم وغيرهم، إلا أنه قد جرت الأعراف العملية في أحايينَ كثيرةٍ على غض الطرف في المناصب السياسية عن التشدد في توافر الكفاءة العالية في هذا العنصر، لصالح الاكتفاء منها بالحد الأدنى عند اللزوم.
والآخر: أن تكون الحكومة في تشكيلتها الوزارية معبِّرة عن سائر أطياف المجتمع وجغرافيته، وهذا أمرٌ لا تساهلَ فيه ؛ لما يجسده من تطبيق لمبدأ المساواة وتعميق الولاء والانتماء لكل التراب الوطني في نفوس رعايا الدولة ومواطنيها. فالحكومة -بمفهوما الواسع- هي المناط بها رسم سياسات الدولة وتوجهاتها العامة في مختلف المجالات، وللقبول بتلك السياسة وتطبيقها في أرض الواقع يتوجب الحرص قدر الإمكان على إشراك معظم ممثلي المجتمع ورقعته الجغرافية في رسمها.
بناءً على تلك المقدمة، فإنَّا إذا أمعنا النظر اليوم في خارطة التشكيل الحكومي في اليمن ـ بل وكافة المستويات العليا لهرم الدولة وبالذات مستويات القمة منها المتمثلة بمؤسسة الرئاسة وكذا المناصب السيادية ومؤسستي الجيش والداخلية وغيرها - سنجد أنَّ تهامة هي اللون الوحيد المفقود فيها. وتلك حقيقة نسطِّرها بألمٍ ومرارةٍ بالغين، لا بدافعٍ من تعصب أو عنصرية، إنما بدافع التنبيه لاستحقاقات دستورية وأعراف وطنية حُرم منها أبناء الجغرافيا التهامية وغُيبت عنهم، في مخالفة صريحة لتلك الاستحقاقات والأعراف.
لقد بُحَّت الأصوات المنادية بإعطاء تهامة مكانتها التي تستحقها، وتمثيلها في مستويات هرم الدولة ومؤساساتها، لنتفاجأ بنتيجة عكسية رَسمت الإحباطَ في تلك المناداة السلمية التي تميز بها أبناء تلك الجغرافية، وكانت السلبية والإهمال هي رَدَّة السلطة الحاكمة، فبعد أن كان التمثيل التهامي حاضرًا بنسبةٍ ضئيلة جدًا لا تتوافق ورافد موارده واتساع جغرافيته وكثرة سكانه، تم - للأسف- استبعاد الوزير التهامي الوحيد في التشكيلات الحكومية المتعاقبة منذُ سنينَ خلَت وحتى اللحظة، وكأنَّ ما جرى كان عقوبةً واجبة التنفيذ لصدوح تلك البقعة المباركة من الأرض الطيِّبِ أهلها والمسالمةِ في طبعها، صدوحها بالمطالبة بحقها في التمثيل العادل في كيان الدولة، تمثيلاً يجعلها كغيرها على الأقل، رقماً صحيحاً، لا كسرًا غيرَ معتدٍّ به.
ربما حانت الفرصة الآن لتكفِّر القيادة العليا في الدولة عن ذلك الإقصاء والتهميش، وتعيد اللون المفقود في خارطة التشكيلة الحكومية، لِتَكمُلَ جماليتُها المنقوصة وتُسَد لبنتُها المفقودة. لكن على غير المتوقع، فبوابة التشكيل الوزاري لولُوج الكادر التهامي منها إلى ساحة الحكومة قد أُغلقت دونهم، إذْ أنَّ قرار التعيين الصادر مؤخراً لدولة الأخ سالم بن بريك لم يشمل تكليفه بإعادة تشكيل المجلس الوزاري، وأبقى على أعضائه من الوزراء القدامى في مناصبهم وأداء مهامهم.
رغم ذلك فإنَّ الفرصة اليوم لازالت مواتية، ومواتية جداً، ومدخلها من بوابة الشغور لمنصبي وزارتي المالية والاتصالات، تلك الوزارتان الشاغرتان فعلياًّ، عقب تولي وزير المالية رئاسة مجلس الوزراء، ووفاة الدكتور نجيب العوج رحمه الله. فهل تفاجئنا الدولة ممثلةً بمجلس القياة الرئاسي ورئيس الوزراء الجديد ويوكلان سَدّ ذلك الشغور في الوزارتين ( المالية والاتصالات ) لكوادر الجغرافيا التهامية، تلك الجغرافيا التي ذات يوم من سبيعنيات القرن الماضي أُوكل منصب رئاسة الوزراء لأحد رجالها العظام، اعترافاً بكفاءة وجدارة كوادرها، وها هي اليوم مقصاةٌ - عمداً أو سهواً - من حقها الدستوري في المساهمة في تشكيل الطاولة المستديرة لمجلس الوزراء، واكتمال الخارطة الوطنية التي لا ولن تكتمل إلا بإعادة اللون التهامي -المنزوع منها- إليها.