أحمد بن مبارك .. حين ينهار الظل قبل أن يسقط الجدار

قبل 3 ساعة و 50 دقيقة

في لحظة فارقة من عمر الدولة اليمنية المنهكة، جاءت استقالة أحمد عوض بن مبارك من رئاسة الحكومة الشرعية لتشكل أكثر من مجرد هروب من المسؤولية والمشهد السياسي، لحظة كاشفة لسقوط تجربة حكم مثقلة بالتناقضات، ومشبعة بالعجز، ومخترقة بمنظومات الفساد.

ما بين تعيينه في فبراير  2024 واستقالته في مايو 2025، جسَّد بن مبارك تجربة مضطربة اتسمت بجمود القرار، وتآكل الثقة، وتنامي العجز أمام تحديات سيادية واقتصادية وإنسانية متراكمة، ورغم الجدل الكبير الذي أثير نتيجة الاستقالة، إلا أن ما تكشفه الوقائع هو فشل عميق في القيادة، وتواطؤ بالصمت في وجه العبث الإداري والسياسي، واستغلال منصبهِ بوصفه أداة لإعادة إنتاج المحاصصة لا تفكيكها.

هذه القراءة هي تفكيك لتجربة بن مبارك أهم اللاعبين في مؤتمر الحوار الوطني ورئيس الوزراء المستقيل من منظور سياسي، يُعنى بتحليل الأداء، وسياق الفساد، وتوازنات الحكم، وصولاً إلى دلالة استقالته وانعكاساتها على مستقبل السلطة التنفيذية بعد أن تحولت في عهدهِ إلى سلطة فساد متكاملة.

أولاً: السياق العام لتجربة بن مبارك

لعل الجميع يعلم بأن رئاسة الحكومة اليمنية أُسندت إلى أحمد بن مبارك في لحظة سياسية مشحونة، توازن فيها الفاعلون المحليون والإقليميون على حافة تسوية هشة، لم يكن هدفها الفعلي إعادة بناء الدولة، بقدر ما كانت تسعى لضبط إيقاع التحالفات المتضاربة داخل مكون الشرعية.

حيث تولى الرجل منصبه وسط رفض شعبي، ووسط مجلس قيادي مشلول الحركة، ومشهد سياسي منقسم، وكان عليه نظرياً أن يكون مهندس إنقاذ، لكنه ومنذُ أيامهِ الأولى كرئيس للحكومة الشرعية انزلق إلى موقع أقرب إلى المدير الإداري أو الناشط، يُسير الأزمة لا يواجهها، ويتعايش مع الانقسام بدلاً من العمل على تجاوزه، وهذا الأمر كان أبرز ما يُميز بن مبارك، ولعل المقربين منه مجمعون حول هذه الجزئية.

ثانياً: الأداء التنفيذي.. إدارة بلا سيادة

خلال فترة رئاسته لم تُسجل الحكومة أي مبادرة اصلاحية جادة، ولا خطوة مؤسسية تُعيد هيبة الدولة، أو حتى تصحح انحرافاً واضحاً في الإدارة العامة، حيث كان التحدي الاقتصادي أبرز مؤشرات العجز والفشل الذي نخر جميع مؤسسات ومفاصل الدولة.

ولعل انهيار سعر الريال اليمني أمام العملات الأجنبية وغياب السياسات النقدية والمالية الفعالة أثر وبشكل كبير على حياة المواطنين، مما ضاعف الاعتماد على الدعم الخارجي دون استراتيجية مستدامة، وأيضاً فشله في فرض سيطرة حكومته حتى في المناطق المحررة، إذ بقيت قراراته مرهونة بتوازنات بين فصائل عسكرية وسياسية متضادة، ومحدودة التأثير الفعلي على الأرض.

ثالثاً: الصمت في تفشي الفساد

وبرغم من أن بن مبارك كان فاسداً بالمعنى الحرفي للكلمة منذ بداية ارتباطه بنظام الرئيس هادي، وهذا ربما ما يتفق عليه جميع اليمنيين، إلا أن الأسوأ من الفساد هو التعايش معه في فترته الأخيرة. فقد شهدت فترتهِ تكريساً لمنظومة محسوبية وعبث مالي فاق الفساد، اتسعت فيه شبكات المصالح داخل الحكومة دون رد فعل حازم أو إجراءات شفافة، وكذلك  غياب الرقابة على الإيرادات، إلى فضائح العقود في قطاعات الاتصالات والطاقة، إلى التوظيف السياسي في المناصب العليا.

رابعاً: السلطة بوصفها مكافأة لا مسؤولية

ما يُثير الشبهات ربما في تجربة بن مبارك، هو تحوله من ناقم على الفساد كما كان يدعي في ساحة حي الجامعة في العاصمة صنعاء من العام 2011م إلى دبلوماسي تقني، ثم إلى رئيس وزراء شكلي، يتعامل مع المنصب بوصفهِ موقعاً للتموضع، لا موقع تقديم خدمات ومحاربة الفساد، حيث استغل بن مبارك سلطته لبناء شبكة علاقات داخلية تُحصن موقعه السياسي، لتنفيذ مشاريع تتعارض تماماً مع المشروع الوطني.

وهذا يحيلنا إلى التأكيد على أن وظيفته الشاغرة كرئيس للوزراء التي لم تستمر طويلا تعد تتويج لمرحلة سياسية شخصية كانت قد تشبعت بكل الألوان التي يمكن لأي سياسي أن يجربها بمعنى أن هناك عشرات من علامات الاستفهام معظم هذه العلامات ان لم يكن كلها كانت أيام ما قبل الرئاسة أي منذ مؤتمر الحوار وما بعدها.

وكان يفترض الاستغناء عنه كلاعب أساسي في مرحلة ما بعد حرب التحالف العربي وانقلاب الحوثيين على أبعد تقدير عقب زيارته لاثيوبيا لتكشف القاهرة لاحقا بأنه بارك أعمال سد النهضة، بطريقة أقل ما يمكن وصفها بأنها طفولية لكنها بالتأكيد لم تكن بريئة من شخصية لطالما يصفها الكثير بالثعلب ولديها القدرة على التخفي، وكأنه كان يسعى من وراء الزيارة وتلك التصريحات إلى الابتزاز أو الحصول على مكاسب معينة، وهو ما ازَّم العلاقات بشكل كبير وسط تحفظ من كافة الأطراف ليقفز بعد ذلك إلى رئاسة الوزراء وسط دهشة الكثير، قفزة الغريق الأخيرة.

بالإضافة إلى أن في عهدهِ تحولت التعيينات إلى أدوات تفاهم بين مراكز القوى، لا إلى وسائل بناء مؤسسات فعالة. كما فشل أيضاً في إدارة العلاقة مع مجلس القيادة الرئاسي، ما عزز تهميش القضايا المصيرية للبلد وعمَق الشرخ داخل السلطة التنفيذية.

خامساً: الاستقالة... نهاية متوقعة لمسار مُفرغ من المعنى

قرر بن مبارك الاستقالة وبمعنى أصح فرض عليه فسادهُ تقديم استقالته وركاكة شخصيته وربما التخلي عنه من قبل التحالف والمجلس الرئاسي لأنه باختصار أحد أذرع الرئيس هادي ولم يكن يوما أداة وطنية حقيقية، بل كان الأمر أقرب للهرب حين شعر بأن مسألة إقالته باتت وشيكة، لتطوى صفحة رجل لم يدرك يوماً بأن فشله لم يكن نتيجة الحرمان من الأدوات فقط، بل نتيجة سوء استخدام ما توفر منها، والعجز عن ابتكار البدائل في لحظة حرجة، برغم أن الاستقالة جاءت متأخرة، بعد أن تحولت الحكومة في عهده إلى كيان هش، بلا فعالية، وبلا ثقة، وبلا وزن سيادي حقيقي.

وتكشف حقبة بن مبارك عن خلل عميق في منظومة الحكم منذ الرئيس هادي ورؤساء الوزراء بن دغر ومعين عبد الملك وهي نقطة جازمة، هذا الخلل لا يتصل بشخصه وحده، بل ببنية السلطة التي تتناوب على الفشل، لم تكن مشكلته أنه لم يُمنح فرصة، بل أنه لم يُبدِ إرادة، ولم تكن الأزمة في ما فُرض عليه من قيود كما يدعي، بل في ما قبله منها بصمت.

ولذا إن اللحظة التي أعقبت استقالته يجب ألا تكون لحظة استبدال اسم باسم، بل لحظة مراجعة عميقة لطبيعة القيادة التي نحتاجها: قيادة قادرة على المواجهة لا التبرير، علي بناء المؤسسات لا تحصين النفوذ، وعلى إدارة الدولة كقضية وطنية لا كغنيمة سياسية، وهو ما لم يكن طالما أن البديل قد صعد إلى الكرسي بانتظار ما قد يقدمه وسط وضع اقتصادي وسياسي مضطرب وغير مستقر.

الفساد، حين يُدار برأس فاسد

لا يمكن الحديث عن فترة بن مبارك دون التوقف عند الملفات الثقيلة التي فُتحت ثم أُغلقت بلا حساب، من صفقات المشتقات النفطية، إلى اختفاء أموال الدعم، إلى التعيينات التي نُسجت بخيوط الولاءات، إذ لم يكن بن مبارك غريباً عنها، بقدر ما كانت تجري تحت سلطته في مؤسسات يترأسها.

وإذا كان لم ينهب بيده كما يقول اتباعه فترة رئاسته الأخيرة التي استمرت عاما ونيف، فقد سمح للصوص بأن يعبروا أمامه دون أن يعترضهم، وفي السياسة هذا يُسمى تواطؤاّ ناعماً، لكنه مدمر حين يكون الصمت أمام جريمة فساد مالي مكتملة الأركان.

شراء العقارات.. ونهب المال العام

تبرز قضية فساد رئيس الوزراء أحمد بن مبارك كأحد مؤشرات الخلل العميق في بنية الحكومة الشرعية، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة إنسانية واقتصادية خانقة، حيثُ أستغل الرجل منصبه ووظف نفوذه لنهب المال العام وشراء العقارات الفاخرة في الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية مصر العربية، تقدر بملايين الدولارات، ما يعكس انفصالاً حاداً بين القيادة السياسية والواقع المعيشي للمواطن اليمني.

هذا السلوك لا يقتصر على الجانب الأخلاقي بل يضعف أيضاً شرعية الحكومة أمام المجتمع الدولي، خصوصاً أن مانحين دوليين أبدوا تحفظهم في تقديم دعم مالي بسبب الشبهات المتزايدة بالفساد داخل الحكومة، كما يُعزز ذلك سردية الأطراف المعارضة، مثل مليشيا الحوثي، بأن الشرعية ليست سوى واجهة للنهب المالي حالها كحال العصابات في العاصمة صنعاء وباقي المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.

ختاماً .. لا يمكن فصل استقالة أحمد بن مبارك عن السياق الأوسع لانهيار الدولة اليمنية، لكنها تُظهر أن استمرار نموذج "رئيس الوزراء الفاسد" الذي يُدير الأزمة لا يعالجها، لن يُفضي إلا إلى مزيد من الانهيار، وعلى القوى السياسية الوطنية استغلال هذه اللحظة لإعادة تعريف طبيعة القيادة، ومحاسبة من شارك في إنتاج هذا العجز والفشل المستدام.