بأية حال عُدت يا يوم الصحافة؟

قبل 6 ساعة و 10 دقيقة

قبل يومين، كان العالم يحتفل باليوم العالمي لحرية الصحافة الذي يصادف الثالث من مايو (أيار) من كل عام. ولكن هذا الاحتفال يأتي هذه المرة بينما تبلغ حرية الصحافة «أسوأ مستوياتها على الإطلاق»، وتواجه «تهديداً غير مسبوق»، في الوقت الذي يُهيمن فيه الغموض على مستقبلها.

 

لذلك، لن يكون مُستغرباً إذا استدعى الصحافيون، والمؤمنون بحرية الصحافة عموماً، بيت المتنبي الشهير الذي قال فيه: عيد بأية حال عُدت يا عيد... بما مضى أم بأمر فيك تجديد.

في هذا اليوم، يحتفي الصحافيون، والمؤمنون بالمعايير الإنسانية والمهنية والأخلاقية التي تحكم عمل الصحافة، بيومها العالمي، بينما تعاني من أوضاع كارثية؛ إذ يستمر قتل الصحافيين في غزة بلا هوادة، ليخرق الأسقف كلها، ويبلغ مستويات قياسية، وتنتقل الضغوط التي يواجهها الصحافيون ومؤسساتهم من العالم الثالث، لتظهر بوضوح في ديمقراطيات عريقة، بينما تستمر وسائل «التواصل الاجتماعي»، ومعها مُستحدثات الذكاء الاصطناعي، في تغيير عالم الإعلام، وإرباك مستقبله.

يقول الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في الرسالة التي وجهها احتفاء بتلك المناسبة: «تواجه حرية الصحافة في الوقت الراهن تهديداً غير مسبوق، بينما يزداد عمل الصحافيين صعوبة وخطورة عاماً تلو الآخر؛ حيث يتعرضون للاعتداءات والاحتجاز والرقابة والترهيب والعنف والموت، لمجرد قيامهم بعملهم، ويزداد عدد القتلى في صفوفهم في مناطق النزاع، ولا سيما في غزة».

تظل غزة أكبر بؤرة للعنف ضد الصحافيين، منذ اندلاع هجوم «طوفان الأقصى»، في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023؛ حيث تُقدِّر المنظمات الدولية المعنية بحرية الصحافة عدد القتلى من الصحافيين في تلك المنطقة، بما يراوح بين 170 و220، وهو رقم ضخم وغير مسبوق، وستزيد تكلفته عندما نعرف أن بعض هؤلاء الصحافيين قُتلوا مع أفراد من عائلاتهم.

وفضلاً عن عمليات القتل المنهجية ضد الصحافيين، عمدت السلطات الإسرائيلية إلى غل أيدي الصحافيين الدوليين عن تغطية تفاعلات الصراع على الأرض، بينما واصلت شن هجمات قضائية وبوليسية على الصحافيين المحليين، لتجعل من عملية التغطية المُستقلة والمُتوازنة مسألة مستحيلة.

ليست تلك هي كل الأنباء السيئة؛ إذ واصلت الولايات المتحدة الأميركية تحولاتها الصادمة إزاء حرية الرأي والتعبير؛ ليس فقط من خلال الأوامر التنفيذية التي استهدفت مؤسسات الإعلام العمومية، بغرض تفكيكها وقطع التمويل الحكومي عنها، ولكن أيضاً عبر تقييد عمل بعض المؤسسات الكبرى، ومنعها من أداء مهامها، فضلاً عن ممارسة ضغوط اقتصادية عليها، لجعلها غير قادرة على الاستمرار في الوفاء بدورها.

تأتي تلك الأنباء السيئة كلها، في وقت يبدو مستقبل الصحافة فيه غامضاً كما لم يكن من قبل، أو هذا -على الأقل- ما أظهرته نتائج استطلاع للرأي أجراه «معهد (رويترز) لدراسات الصحافة» في وقت سابق من العام الحالي؛ حيث تراجع معدل الثقة في مستقبل الصحافة ليبلغ 41 في المائة في 2025، مقابل 47 في المائة في 2024.

كان من المفترض أن ترفد وسائل «التواصل الاجتماعي» العمل الإعلامي بزخم إيجابي متجدد؛ إذ صُممت تلك الوسائل لتعزز أدوار الانفتاح والتدفق المعلوماتي، ولتمنح صوتاً لمن لا صوت له، كما قيل لنا في بدايات ظهورها. ولكن التجربة العملية أفادت بأن تلك الوسائل خضعت لعملية تحكم مركزية، عبر شركات التكنولوجيا الكبرى المُشغِّلة لها، وأنها وظفت ديناميات التفاعل، والخوارزميات، ومعايير الاستخدام، لكي تُحد من حرية الكلام، أو تؤطره، في الوقت الذي لم تُحد فيه من السطو على الوظيفة الإخبارية لوسائل الإعلام المؤسساتية، ولم تحمها من الاعتداء على ملكيتها الفكرية، عبر استخدام منتجاتها من دون تعويض مالي مناسب.

أما الذكاء الاصطناعي، فبدا كسَيفٍ ذي حدين في علاقته بالصحافة؛ أحدهما نعرف إيجابياته جيداً؛ ومنها تسريع انتقال الأخبار، وتقليص التكلفة المالية لإنتاجها، وتحسين المُنتج الإخباري، ولكن حده الآخر كان مؤلماً وضاراً؛ إذ عزز ممكنات التضليل ونشر الأكاذيب، وروَّج خطاب الكراهية على أوسع النطاقات، وعمَّق خطورة عمل الخوارزميات، وضاعف أضرارها.

ولذلك، فقد أفاد تقرير منظمة «مراسلون بلا حدود» السنوي، في نسخته الأخيرة، بأن وضع حرية الصحافة «يبلغ أسوأ مستوياته على الإطلاق في 2025؛ حيث يعيش أكثر من نصف سكان العالم في دول يُصنَّف وضعها الصحافي بأنه خطير للغاية».

لم يتوقع أكثر المتشائمين إزاء مستقبل حرية الصحافة هذا السيناريو الكارثي في أسواء الكوابيس وأكثرها سوداوية، ولكن هذا ما جرى، وهكذا أضحت حرية الصحافة في بداية الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين، وهو أمر ستكون له عواقب خطيرة.

نقلا عن الشرق الاوسط