Image

سباق المعادن النادرة ينطلق وسط هيمنة صينية واسعة

يبدو أن خريطة السيطرة على الموارد الطبيعية تشهد إعادة رسم في ظل الركض وراء الهيمنة على المعادن النادرة تحت الأرض، وبينما يوجد 17 من هذه المعادن ذات الخصائص الكيماوية الأساس لتصنيع التقنيات الرئيسة للطاقة والتحول البيئي والأجهزة الإلكترونية والرقمية وأمام نطاق استخداماتها الواسع، فإن الكميات المتاحة من المعادن النادرة منخفضة. ومن المتوقع أن يضغط هذا الطلب المتزايد على الاحتياطات العالمية للمعادن النادرة في المستقبل، واتضحت هيمنة الصين في إنتاج المعادن النادرة في عالم يركز بشكل متزايد على التكنولوجيا الرقمية والمنخفضة الكربون.

على مدى العقدين الماضيين كانت الصين مسؤولة عن 80 إلى 95 في المئة من الإنتاج العالمي لهذه المعادن النادرة، وهي مكونة من 17 معدناً أصبحت أساساً للتقدم التكنولوجي الثوري في مجالات الطاقة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والأجهزة الطبية وحتى الدفاع. وعلى عكس ما يوحي اسمها، فإن المعادن النادرة ليست نادرة الوجود، إذ توجد في مناطق عدة، إنما يرجع الإشكال في إنتاج هذه المعادن في المقام الأول إلى ظهور المخاوف البيئية، التي برزت خلال السبعينيات والثمانينيات في فرنسا والولايات المتحدة على وجه الخصوص.

17 عنصراً تسمى "المعادن النادرة" وتلعب دوراً رئيساً في حسابات واستراتيجيات مختلف البلدان، وتعد من أساسات المجتمع الصناعي في القرن الـ21، وهي حيوية بالنسبة إلى المنتجات الرئيسة التي تراوح ما بين منتجات التكنولوجيا الفائقة (الهواتف الذكية والشاشات) وأنظمة تحويل الطاقة (توربينات الرياح والألواح الكهروضوئية والآلات الكهربائية) وحتى العسكرية (أشعة الليزر والرادار).

وتعد بعض هذه المعادن (مثل الإنديوم والغاليوم) مهمة لإنتاج الرقائق الإلكترونية، التي تمثل حجر الزاوية في صناعات التكنولوجيا الفائقة اليوم.

وبسبب أهميتها الصناعية والاستراتيجية على وجه التحديد أصبح إنتاج الرقائق الإلكترونية يعد بشكل متزايد "ضرورة جيوسياسية"، تفاقمت بسبب التوترات المستمرة بين الولايات المتحدة والصين، لذلك فإن مصير الرقائق الإلكترونية والمعادن النادرة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا السباق العالمي المتنامي على التكنولوجيا والريادة الصناعية.

وليس من قبيل المصادفة أن الرئيس الصيني شي جينبينغ هدد عام 2019 بخفض صادرات المعادن الأرضية النادرة كإجراء احترازي ضد معارضة الولايات المتحدة لشركة "هواوي الصينية" والنزاع حول الرقائق الإلكترونية، مما أدى في نهاية المطاف إلى تسريع إجراءات واشنطن المضادة للحد من ضعفها.

ويظل استخراج المعادن الأرضية النادرة ينطوي على التغلب على تحديين، أولاً، لاستخراج كميات صغيرة من المعادن الأرضية النادرة الـ17، يجب إزالة أطنان عديدة من الركام والصخور وهي عملية ملوثة للغاية، ثم يأتي فصل المعادن ثم تحضيرها للاستخدام في المغناطيسات العالية الطاقة أو تكنولوجيا الليزر أو جهاز مكافحة تزييف الأوراق النقدية، وهذه العمليات معقدة ومكلفة، وبالطبع يمكن للصين توفير المنتج النهائي بسعر أقل بنسبة 30 في المئة.

أفريقيا ملاذ أوروبا الأخير

ويبدو أن أفريقيا، التي لا تزال غنية بالموارد الطبيعية، تشكل ملاذاً مهماً للاتحاد الأوروبي لكن لم يكن الأمر دائماً على هذا النحو.

وجاءت هيمنة الصين نتاجاً للقرار الذي اتخذته الإدارات الأميركية المتعاقبة بدءاً من أواخر الثمانينيات بجعل الصين قلب التصنيع الأميركي، وإحدى الصناعات التي نقلتها الولايات المتحدة الأميركية عبر المحيط الهادئ كانت تعدين ومعالجة العناصر الأرضية النادرة.

وتمتعت الولايات المتحدة بالاحتكار، وفي عام 2017 شكل الاتحاد الأوروبي التحالف الأوروبي للمواد الخام للبدء في التنويع، وفي ذلك الوقت كانت الصين توفر 98 في المئة من حاجاتها من المعادن الأرضية النادرة، وفي الوقت الحالي لا تزال الصين توفر 90 في المئة من المعادن الأرضية النادرة في العالم. وتمتلك بكين 36 في المئة من احتياطات المعادن النادرة في العالم، وروسيا 19 في المئة والولايات المتحدة 13 في المئة، وأستراليا خمسة في المئة، والهند ثلاثة في المئة، ولذلك تعد الصين المنتج الرئيس للعناصر الأرضية النادرة في العالم تليها أستراليا والولايات المتحدة، وفق منصة "كايرن للبحوث العلمية".

مع ذلك وقع الاتحاد الأوروبي شراكتين استراتيجيتين منذ تشكيل التحالف، أحدهما مع كندا والآخر مع أوكرانيا، والمشكلة هي أن الاتفاق الثاني تعرض للخطر بسبب الأزمة السياسية العسكرية الروسية - الأوكرانية المستمرة منذ بداية عام 2021.

ومنذ الأزمة السياسية العسكرية الروسية - الأوكرانية، أثبت البحر الأبيض المتوسط ​​وامتداده الاستراتيجي - أي أفريقيا - أنه مسرح للمناورات السياسية للقوى الكبرى، لذا فإن القضايا تقع على ثلاثة مستويات استراتيجية واقتصادية وبيئية.

وتعتزم الولايات المتحدة أكثر من أي بلد آخر تقليص هذه الفجوة مع الصين، وهي السياسة التي دعمتها إدارة ترمب وبادين، وفي عام 2019 بدأت وزارة الدفاع الأميركية مفاوضات مع مالاوي وبوروندي لبحث دعم عدد من المشاريع لتأمين الإمدادات المستقبلية من المعادن الأرضية النادرة من القارة الأفريقية.

حزم المساعدات مقابل المعادن

وتعكف بكين على زيادة وجودها في القارة الأفريقية لضمان الإمدادات المستقبلية من المعادن الأرضية النادرة لتنفيذ طموحاتها الصناعية اللامحدودة والتحول التكنولوجي. منذ عام 2018 بدأت الصين في استيراد بعض المعادن النادرة استجابة للطلب المحلي المتزايد واتباع القيود البيئية على ممارسات التعدين غير القانونية، ولذلك فمن المؤكد أن بكين ستتحرك لتأمين وارداتها، ولا شك أن مثل هذه الإجراءات ستحدث في أفريقيا.

منذ نحو خمسة أعوام أدركت أوروبا والولايات المتحدة هذا الوضع الدقيق وقررا تسريع الخطوة، لكن بينما يعمل الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة على تنويع سلاسل التوريد للمعادن النادرة وغيرها من المواد الخام، فقد اكتشفوا أن الأمر ليس بهذه السهولة، إذ ثبت إتقان الصين ورقة المواد الخام المهمة.

لا يوجد تحول أخضر ولا إنترنت ولا أبحاث طبية في مجال الـ"نانو" ولا أسلحة متقدمة ولا ذكاء اصطناعي ولا حلول تقنية لمشكلات الكواكب من دون معادن نادرة، وأدرك أبو الثورة الاقتصادية الصينية، دنغ شياو بينغ، أهميتها وأعلن "إن الشرق الأوسط لديه النفط والصين لديها معادن أرضية نادرة".

ثمة مخاوف من أن تؤدي قيود العرض إلى إلحاق أضرار جسيمة بالاقتصادات والصناعات وخطط إزالة الكربون، مما يدفع كثيراً من البلدان إلى البحث عن مصادر بديلة.

ظهرت المخاوف للمرة الأولى عام 2010 عندما أعلنت بكين، لأسباب سياسية، وقف صادراتها إلى اليابان، وفي ذلك الوقت كان من المقدر أن نحو 97 في المئة من احتياطات الأرض النادرة في العالم تأتي من الصين، وتصاعدت التوترات الجيوسياسية بين الولايات المتحدة والصين، وهددت الصين مراراً بخفض أو منع صادرات المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة، مما دفع جميع الدول المستوردة إلى إيجاد مصادر جديدة للإنتاج للحد من الهيمنة الصينية في هذا القطاع.

وفي هذا العصر الجديد من إعادة تشكيل التحالفات الجيوسياسية تتمتع أفريقيا بالفرصة للظهور كمنطقة إنتاج، وهو ما من المرجح أن يؤدي إلى اشتداد المنافسة بين اللاعبين العالميين.

تعد القارة الأفريقية موطناً لكثير من رواسب المعادن النادرة، بخاصة في البلدان الشرقية والجنوبية مثل جنوب أفريقيا وبوروندي وكينيا ومدغشقر وملاوي وموزمبيق وناميبيا وتنزانيا وزامبيا، وفي الشمال مثل منطقة الساحل والصحراء والجزائر، مع ذلك في ظل الوضع الحالي لم تصل أفريقيا بعد مرحلة الإمكانات الكبيرة، وعملية الاستخراج الوحيدة الجارية حالياً هي في مشروع غاكارا رار إيرث في بوروندي ورواسب ستينكامبسترال في جنوب أفريقيا التي يمكن تشغيلها قريباً.

وبدأ عدد من البلدان الأفريقية في تنفيذ مشاريع في مراحل مختلفة، بما في ذلك جنوب أفريقيا (مشروعا جلينوفر وفالابوروا)، وأنغولا (مشروع لونجونجو)، ومدغشقر (تاتالوس)، وملاوي (كانجانكوندي)، وموزمبيق (مشروع زيلوفو REE)، وناميبيا (مشروع لوفدال للمعادن النادرة الثقيلة)، وأوغندا (مشروع ماكوتو)، وتنزانيا (مشروع نجوالا للأرض النادرة).

حرب النفوذ

وفي الخلفية، هناك في المقام الأول حرب النفوذ بين دول "بريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وأثبتت بكين نفسها على مر الأعوام كشريك مفضل لأفريقيا. وإذا كان الاتحاد الأوروبي لا يزال الشريك التجاري الرائد للقارة الأفريقية، فقد نجحت الصين في غضون 20 عاماً في ترسيخ مكانتها باعتبارها المورد الرئيس للسلع لأكثر من 30 دولة أفريقية، فضلاً عن كونها المستثمر الأجنبي الرائد في أفريقيا.

ويتبين من تحليل المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2011 أن النخب الجديدة في القارة الأفريقية ستكون مترددة بصورة متزايدة في تعزيز التعاون مع الشمال والتركيز بدلاً من ذلك على التنمية بين بلدان الجنوب.

جرى تأكيد أن الصين ستسهم بلا شك في تجديد وتطوير البنية التحتية في المنطقة، وستكون الشركات ورجال الأعمال في شمال أفريقيا، مدفوعين جزئياً بالاستثمارات الضخمة والطلب المتزايد من دول "بريكس" ودول مجلس التعاون الخليجي، في مركز تطوير العلاقات الإقليمية الجديدة.

وفي ظل هذه الديناميكية الجديدة، يحاول الاتحاد الأوروبي المقاومة، وبالفعل، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، كشفت أورسولا فون دير لاين عن مشروع "البوابة العالمية"، الذي يحشد 300 مليار يورو (312 مليار دولار) من التمويل العام والخاص في البلدان الناشئة لتطوير البنية التحتية، وتتمثل الاستراتيجية قبل كل شيء في تسهيل استغلال الاحتياطات الكبيرة من المعادن النادرة التي نادراً ما تستغل وتمتلكها دول عدة مثل الجزائر وبوروندي والجابون وتنزانيا وغيرها.

وتحاول أوروبا الهرب من اعتمادها على الصين في هذه المعادن الأرضية النادرة والوصول إلى الموارد المعدنية الضرورية لانتقال الطاقة مثل الكوبالت والنحاس والليثيوم والسترونتيوم.

توجد رواسب أرضية نادرة في بلدان أخرى، لكن نادراً ما تُطور بسبب الصعوبات الفنية وارتفاع كلفة الإنتاج والتأثيرات البيئية، ولكل هذه الأسباب قررت الدول الغربية وقف استغلال مناجم المعادن النادرة لديها في الثمانينيات لتسليم الإنتاج إلى الصين.

ومنذ ذلك الحين اجتذبت الصين الشركات الأجنبية التي تتمتع بالمعرفة التكنولوجية في هذا المجال، وأتقنت تدريجاً المراحل الأولية والنهائية لسلسلة القيمة، من أجل الحصول على حصة أكبر من القيمة المضافة، ونتيجة لذلك أصبحت اللاعب المهيمن في سوق المعادن الأرضية النادرة العالمية وشركة التحويل الرائدة، وهي تحتكر اليوم معظم سوق بطاريات الليثيوم أو البطاريات الكهربائية بنسبة 68.8 في المئة ونصف المبيعات العالمية للسيارات الكهربائية. 

وتواجه أوروبا منافسة من الصين في أفريقيا، بعدما أثبتت بكين نفسها الآن كشريك أساس ودائن رئيس للدول الأفريقية، ومن خلال مشروع طرق الحرير الجديد تعمل الصين على تطوير نفوذها في أفريقيا، إذ يجرى إطلاق كثير من الشراكات لاستغلال المعادن النادرة الأفريقية والسيطرة عليها. ومن المرجح أن تخاطر الدول الأفريقية المرشحة لتلقي الاستثمارات الصينية بالاضطرار إلى توقيع عقود مواردها الطبيعية مع الصين، وعلى سبيل المثال جعلت أنغولا المعادن النادرة أولوية في تطوير التعدين لديها من أجل تلبية حاجات بكين، كذلك فعلت تنزانيا من خلال منجم فونجوني، وفي جمهورية الكونغو الديمقراطية احتكرت الصين تقريباً رواسب الكوبالت في البلاد، علاوة على ذلك وقعت الشركة الصينية "شاينا نونفروس متال مينيغ" مذكرة تفاهم مع شركة "أي أس آر كابيتال" لشراء 3 آلاف طن من المعادن النادرة من مشروع "تانتالوس" في مدغشقر.

وفي جنوب أفريقيا وزامبيا وزيمبابوي تنفذ بكين استراتيجيتها للسيطرة على المعادن النادرة على نطاق أفريقي، وذلك في إطار تنفيذ خطتها لاحتكار المعادن النادرة على نطاق دولي.

في الواقع تستخدم الصين "حزم المساعدات" أو "صفقات الحزمة" (بناء البنية التحتية مقابل الموارد الطبيعية)، وهي اتفاقات تسمح، مقابل تمويل بناء مشاريع البنية التحتية المرموقة، بحصة في مشروع تعدين من خلال الاستحواذ على أسهم في شركة وطنية أو تراخيص في بلدان أفريقية.

وتسعى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا الآن أيضاً للحصول على معادن نادرة من أفريقيا، منذ عام 2019، كذلك شهدت روسيا عودتها إلى أفريقيا واستخدمت شركاتها كرؤوس حراب في القارة، وهم يستثمرون في التنقيب وتطوير مشاريع الغاز والنفط والخامات والمعادن النادرة.

وفي الأعوام الأخيرة، بردت العلاقات التجارية بين أفريقيا والاتحاد الأوروبي، لمصلحة بلدان أخرى هي الصين وتركيا وروسيا والهند والولايات المتحدة، وأكد الدبلوماسيون الأفارقة، خلال قمة الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي في أديس أبابا بإثيوبيا، في الـ27 من فبراير (شباط) 2020، أن الاتفاقات التجارية المبرمة بين الطرفين لا تسمح للدول الأفريقية بتطوير الصناعات الوطنية لتصدير المنتجات النهائية إلى الاتحاد.