Image

إرهاصات ثورة .............؟

لم تكن الـ 14 عامًا الأخيرة من حُكم الإمام الطاغية يحيى محمد يحيى حميد الدين هَادئة عليه أو مُستقرة؛ بل تخللتها أحداثٌ عظام، وتحولات حاسمة، وبهزيمة جيشه الحافي أمام القوات السعودية، بدأ العد التنازلي لنهايته مايو 1934م؛ وهي الكارثة التي أدت لارتخاء قبضته، وتَبَدُد هيبته، وضُعف شعبيته، ليبدأ الأحرار يُفكرون جديًا في كيفية التخلص منه.
بداية النهاية.     
كانت حرب الانسحاب المُذلة تلك، وتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود بداية ذات العام مع الإنجليز، كانتا حدًا فاصلًا بين مرحلتين زمنيتين، وهذا لا يعني قطعًا أنَّ حركة المُعارضة اليمنية كانت مُتوقفة قبل ذلك التاريخ؛ فقد ظهرت أصوات فردية محدودة، اكتفت بتقديم النصح شعرًا، ونثرًا، ولم يعرها الإمام الطاغية أي اهتمام.
   
كما وُجِدت - وهو الأهم - حركات فلاحية مُسلحة في حاشد، وحبيش، والعدين، وجبل صبر، والمقاطرة، والقبيطة، والصبيحة، والحواشب، والضالع، ويافع، وردفان، وريمة، وبُرع، ووصاب، وزبيد، وحيس، وصعفان، وملحان، والبيضاء، والعواذل، ودثينة، والجوف، ومأرب، وبرط، وباجل، والزيدية، والزرانيق، وتصدرت في لحظة مُقاومة المشهد، وتصدت للزحوفات الإمامية، وأصلتها كأس المنون، واستمرت إحداها (أقصد هنا مُقاومة قبيلة الزرانيق) حتى أواخر عام 1929م، وهي - أي تلك الحركات - على كثرتها لم تحظَ بالدراسة والتوثيق إلا ما ندر (تحدثت عنها تفصيلًا في كتابي "حرب العصيد.. جنايات يحيى حميد الدين على اليمنيين").
   
جاءت بعد ذلك حادثة استفراد الإمام يحيى بالحكم، وتوزيعه ألوية اليمن كإقطاعيات بين أولاده 1938م؛ وأخذه البيعة لولده أحمد ليكون وليًا للعهد، وإمامًا من بعده؛ وهو الأمر الذي أحدث شرخًا بين أسرته وباقي الأسر العلوية الطامحة، وبمعنى أصح وسع ذلك الشرخ أكثر فأكثر. 
   
مجاعة عامي 1942 - 1943م تُضاف هي الأخرى إلى جُملة الأسباب التي أدت لارتفاع وتيرة مُناهضة حكم الإمام يحيى وبنيه، وكانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وكانت بداية النهاية، ومثلت نقطة تحوّل فارقة في انتهاج أبطال ذلك النضال لسياسة المُصادمة بَدلًا من سياسة المُهادنة، والتمرد على قداسة الإمام وحقه الإلهي.
    
وهكذا، وبعد استراحة مُحارب، لم ينتصف العام التالي (1944م) إلا وأصوات أولئك الأحرار القوية تقض مضاجع الطغيان، الأمر أصابه بالجنون، فأخذ يُفتش عن بقايا منشور هنا، وعن رسالة مُحفزة هناك، وأتبع ذلك بأنْ زج بالعشرات منهم في سُجونه المُتباعدة.
 

المدينة الآثمة
 (هيئة النضال - خلية صنعاء)، ثم (حزب الأحرار الدستوريين)، و(جمعية الإصلاح) في إب، أشهر ثلاثة كيانات تحررية جامعة تصدرت خلال تلك الحقبة المشهد، وانضوى تحت لوائها مئات المُستنيرين، من علماء، وقضاة، وأدباء، وتجار، وعسكريين، وبعض مشائخ القبائل، وعدد كبير من الشباب المُثقف. أطلق الإماميون على هؤلاء الشباب المُتحمس والمُثقف تسمية (البزغة) انتقاصًا منهم، ودون إدراك أنَّ نهايتهم ستكون بعد سنوات معدودة على أيدي هؤلاء، وأنَّ بعد البزغة نُضوج.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية سمح الإنجليز في عدن في إيجاد كيان يمني جديد مُعارض لنظام الإمام يحيى، وذلك بعد أنْ زال تخوفهم من تحالف الأخير مع الإيطاليين، ولم يحل العام 1946م إلا وذلك الكيان المُتمثل بـ (الجمعية اليمنية الكبرى) يتصدر المشهد، وبرؤى ناضجة، وبمطالب شاملة تهم كل اليمنيين، وعلى رأسه كوكبة من الأحرار المُستنيرين، كان القاضي محمد محمود الزبيري، والأستاذ أحمد محمد نعمان أبرزهم.
  
وقبل أنْ ينتهي ذلك العام بشهرين، أصدرت الجمعية (صوت اليمن)، وهي صحيفة المُعارضة الحزبية الأولى في اليمن، ومُتنفس الأحرار الأوحد خلال تلك الفترة، وصوتهم المُعبر عن آمال الشعب والأمة، ومن خلالها أطلوا على العالم، وكانت بحق الدليل الفعلي لمعرفة تفكيرهم، ونشاطهم، وتوجههم، وعلى صدر صفحاتها نشروا الرسائل، والنداءات، والمقالات الشارحة لمـُعاناة الشعب اليماني الأصيل.
   
كانت تلك الصحيفة مدرسة في الصحافة الوطنية، أقضَّت على مدى عام وأربعة أشهر، و69 عددًا مضاجع الطغاة، وهدَّت كيانهم، وقامت بدور فعال على طريق الإعداد للثورة، وذلك من خلال الدعوة إلى الإصلاح، ونشر الوعي بين الشباب، وخلق توجه فكري ذي نزعة وطنية مُنجذبة - ولو عاطفيًا - نحو الهوية والخصوصية اليمنية، بموازاة النزعة السلالية المذهبية المُنغلقة على ذاتها، والمُتحكمة آنذاك بالقرار السياسي.
   
ونتيجة لوضع الإمامة المُزري، انضم الأمير إبراهيم بن الإمام يحيى إلى صفوف الأحرار، أطلقوا عليه تسمية (سيف الحق)، وصار صوتهم بانضمامه مسموعًا، وصارت أنظار أحرار العالم تتجه إليهم، والأهم من ذلك كله احتوائهم لذلك الأمير بكافة الوسائل الممكنة، وتغلغل نفسهم الثوري في أدبياته، وتصريحاته النارية.
   
«عليك أنْ تقي أسرتك والشعب من خطر الانفجار الذي لا يُؤخره غير انتظار فترة قصيرة من الزمن، تظل فيها منجحرًا في قمقم التاريخ الهاشمي المُظلم»، هكذا خاطب سيف الحق إبراهيم والده الإمام يحيى ذات مقال، وبالفعل حصل الانفجار، وحسم الثوار أمرهم بثورة لبست العباءة الزّيدِيّة، وحظوا بدعم كبير من قبل جماعة (الإخوان المسلمين) في مصر، ونصبوا عبدالله الوزير إمامًا دستوريًا 17 فبراير 1948م، وتلقب الإمام الجديد بـ (الداعي)، ثم بـ (الهادي)، وكان بشهادة كثيرين أسوأ من سلفه بكثير.
  
استغل ولي العهد أحمد يحيى حميد الدين حادثة مقتل أبيه، وحشد الحشود لدخول صنعاء، المدينة الآثمة حد وصفه، والقضاء على الثورة الدستورية، وتأديب الأحرار العصريين، وأعلن في اليوم التالي لدخوله ذات المدينة نفسه إمامًا 14 مارس 1948م، وتلقب بـ (الناصر)، وكان عهده أسوأ من حكم أبيه، أباح نهب صنعاء، وشبام، والعدين، وأسرف في سفك الدماء، وقتل شقيقه إبراهيم بالسم، كما أعدم الإمام عبدالله الوزير و36 ثائرًا بدون مُحاكمة، وزج بمن تبقى من الثوار في سجون حجة المُوحشة، وكان دائمًا ما يردد: «والله لأخضبن يدي بدماء العصريين حتى ألقى الله وهو راض عني».

قائد فتنة!  
عاش الإمام أحمد السنوات السبع الأولى من حُكمه مُطاعًا مُهابًا؛ كيف لا؟ وقد خرج مُنتصرًا على أعدائه العصريين، ثائرًا لدم أبيه منهم، ماضيًا على نهج سلفه الصريع، فزادت تبعًا لذلك شعبيته عند أنصار الإمامة، وغيرهم، وبدأ يهيئ الأمر لولده الأمير محمد البدر ليكون وليًا للعهد وإمامًا من بعده، وهي التهيئة التي ولَّدت صراعًا عاصفًا داخل أفراد الأسرة الإمامية الحاكمة.
   
وكرد فعل أولي على تلك التهيئة، انقلب الأمير الطامح عبدالله بن يحيى حميد الدين على أخيه الإمام يوم الخميس 31 مارس 1955م، بمُعاضدة من بعض ضباط الجيش النظامي، بقيادة صديقه المقدم أحمد يحيى الثلايا، وقد أجبر الأخير الطاغية أحمد أنْ يتنازل بالإمامة لأخيه غير الشقيق، وجاء في وثيقة التنازل الماكرة ما نصه: «حملنا الأخ سيف الإسلام عبدالله الحجة، وكان التنازل على أنْ يقوم بالأمر..».
   
وحين التجأ الأمير محمد البدر إلى القبائل الشمالية، آثر الإمام الجديد (عبدالله) الذي تلقب بــ (المُتوكل) الاعتزال، حَقنًا للدماء، وصارح الطاغية أحمد بذلك، إلا أنَّ الأخير أوهمه أنَّه معه، وأنَّ أمر تنازله محسومٌ محسوم بل وكتب لولده في حجة برسالة يدعوه فيها للرضوخ لأوامر عمه، وختمها بقوله: «وإني أحب أنْ ألقاك عند الله وأنت شهيد، على أنْ ألقاك وأنت قائد فتنة»!
   
انطلت الخُدعة (التقية) على الإمام عبدالله، وحين نصحه البعض بإعدام أخيه الإمام المعزول، لأنَّه مُخادع، وغير مأمون الجانب، زجرهم، وصدَّق أنَّه أصبح الإمام الفعلي، ولم يفق من حلمه القصير إلا بعد مرور خمسة أيام (5 أبريل 1955م)، وإذا بمن عفا عنه بالأمس يأمر بفصل رأسه عن جسده، وفصل رؤوس 16 آخرين، منهم أخاه الشقيق العباس، رئيس الوزراء المـُكلف، وصديقه المقدم الثلايا. وهكذا، وكما أدى مقتل الإمام يحيى إلى فشل ثورة 1948م، أدى عدم مقتل الإمام أحمد إلى فشل حركة 1955م.

الصرخة الكبرى
لم تعد صورة الإمام أحمد بعد إخماده لحركة مارس 1955م كما كانت، تحول في نظر كثير من المفتونين به من بطل اسطوري إلى سفاح سادي، وعصفت به تبعًا لذلك الأمراض النفسية، والجسدية، وما أنْ توجه إلى روما للعلاج 16 أبريل 1959م، ومعه حاشيته، وحشد كبير من الرهائن، حتى قام بعض الضباط والجنود المُتحمسين في صنعاء وتعز بإحراق ومُحاصرة مَنازل بَعض المسؤولين، واغتيال اثنين منهم، بإيعاز وتحريض - كما تشير مُعظم المصادر - من قبل أخيه الأمير الحسن، المُبعد حينها في نيويورك، والغاضب من حِرمانه من ولاية العهد.
   
استنجد الأمير محمد البدر بمشايخ قبيلتي حاشد وبكيل، وتداعوا ومعهم الآلاف من رعاياهم لنصرته، واستغل معظمهم ضعفه الشديد، وطلبوا الأموال الطائلة نظير مُساندتهم له، وقيل أنَّهم وفي ذروة حماسهم، وأثناء دخولهم مدينة صنعاء رددوا هذا الزامل:
ســــلام يــــا حاشد ويا صُبة بكيل
مــن بعــد هـــذا تسمعون أخبارها
إمامنا النــاصر ومن بعــــده حميد
سبـــحان مـــــن رد العوايد لأهلها
    
وحميد هنا، هو الشيخ الثائر حميد بن حسين بن ناصر بن مبخوت الأحمر، وقد كان له أثناء مكوثه في مدينة صنعاء تواصلات مع عدد من المشائخ والأعيان، وقام بالفعل بإقناعهم بضرورة التغيير، واستغلال غياب الإمام أحمد لهذا الغرض، وحين سمع الأخير بذلك، وبصورة مُبالغ فيها، آثر العودة من فَوره، وما أنْ وصل إلى ميناء الحديدة 10 أغسطس 1959م، حتى أطلق خطاب مُجلجل بثته الإذاعة، أسماه (الصرخة الكبرى)، قال فيه: «لن يخيفني أخضر ولا أحمر، وهذا الفرس وهذا الميدان، ومن كذَّب جَرَّب»، واستشهد ببيت شعري نُسب له، مضمونه:
مـــــاذا يـــريدونها لا درَّ درُّهمُ
إنَّ الإمـــامة لا يطوى لها علمُ
   
هَرب أبناء القبائل من صنعاء مَفزوعين مَذعورين، وسلموا مُعظم ما أخذوه من الأمير محمد البدر، وفوقها رهائن جديدة لتأكيد الطاعة، وذلك بعد أنْ مَارس الإمام أحمد في حَقهم جَرائم حرب شنيعة، وقد نال قبيلة حاشد من تلك الجرائم النصيب الأكبر، وكم من مَنازل دُمرت، ومَزارع أتلفت، ولولا عدم إيفاء مَشايخ حاشد وبكيل وبعض ضباط الجيش بالتزاماتهم، وخُذلان أبناء حَاشد لشيخهم، ما تقدمت القوات الإمامية صوب مَضارب قبيلتهم قيد أنملة، وما سَلَّم الشيخ حسين الأحمر بداية ديسمبر من العام 1959م نفسه.
   
أمام ذلك الوضع المُربك، قرر الشيخ حميد بن حسين الأحمر اللحاق بالمشايخ الذين توجهوا صوب بيحان، ثم عدن، أمثال الشيخ سنان أبولحوم، والشيخ ناجي بن علي الغادر، والشيخ أحمد بن علي الزايدي، وغيرهم، إلا أنَّ أبناء القبائل المُجاورة حالوا بينه وبين هدفه، تَقطعوا له، وسَلموه قبل أنْ ينتهي ذلك العام لقوات الإمام أحمد، وذلك بعد أنْ نَهبوا أمواله، وجنبيته، وكان مصيره الإعدام بحد السيف 12 يناير 1960م، وعمره لا يتجاوز الـ 30 عامًا.
   
وحين اطمئن الإمام الطاغية لعدم وجود أي ردة فعل انتقامية؛ ألحق بالشيخ حميد والده (حسين الأحمر)، وذلك قبل أنْ ينتهي ذلك الشهر (يناير) بيوم واحد. كما قام بإعدام الشيخ عبداللطيف بن قائد بن راجح، والأخير اُعتقل بالقرب من الضالع، وذلك أثناء محاولته اللحاق بالمشايخ السابق ذكرهم. وقبلهم جميعًا تم اغتيال الشيخ قاسم أبو راس بالسم 22 مايو 1959م، وذلك بعد أنْ افتضح أمر خطة كان قد أعدها وثوار آخرين لاغتيال الإمام أحمد في قصره بمدينة تعز.  
   
وما يَجدر ذِكره أنَّه وقبل إعدام الشيخ حميد الأحمر بأيام مَعدودة، قام المُناضل سعيد حسن فارع الذبحاني الشهير بـ (إبليس) بِمُحاولة اغتيال الإمام أحمد في مَنطقة السُخنة، وفق خُطة مُستعجلة شَارك في رسم فصولها عدد من أصدقاء وأقارب شيخ حاشد وولده، وكان الغَرض منها إنقاذ الشيخين المذكورين من سيف الطاغية، إلا أنَّ عُملاء وجواسيس الأخير أنقذوا سيدهم، وأفشلوا تلك الخطة في مَهدها.

أسلحة سوفيتية     
كانت الأمراض المُزمنة قد أنهكت - حينها - جسد الإمام أحمد، وقد اتسمت سياسته تبعًا لذلك بالانتهازية والتردد، أجاد استغلال تلك التوترات، وظل خلال تلك الحقبة يلعب على الحبلين، وبعهدة أصبحت اليمن ثالث دولة عربية تكسر طوق الأسلحة الغربية، بعد مصر وسوريا! 
   
توالى وصول الأسلحة السوفيتية إلى ميناء الصليف، ووصل عددها حتى 4 أغسطس 1957م حوالي ثماني شحنات، وهي الأسلحة التي سبق أنْ اشتراها الأمير محمد البدر، وكانت تتكون من 30 دبابة من طراز (T.34)، و50 مدفع من طراز (RCA.100)، و100 مدفع ميدان، و100 مدفع مضاد للطائرات، و70 مُدرعة وعربة مصفحة، و20 طائرة، وكميات من الأسلحة الخفيفة، والقنابل اليدوية، والذخائر. 
   
وقد ظلت معظم تلك الأسلحة مُهملة حتى تَوالى وصول الخبراء الروس والمصريين. وفي الوقت الذي سارع فيه الاتحاد السوفيتي بإرسال فريق تدريب مُكون من 35 مُدربًا، و50 فنيًا، سارع جمال عبدالناصر بإرسال بعثة عسكرية مُكونة من 12 ضابطًا مايو 1957م، ثم عززها بعد مرور عامين ببعثة أخرى، وكانت مهمة هؤلاء جميعًا تدريب القوات المُسلحة اليمنية على الأسلحة الحديثة. وذكر المقدم عبدالله قائد جزيلان أنَّ البعثة المصرية أتت بطلب من الأمير محمد البدر، وأنَّ الإمام أحمد لم يكن راضيًا عنها، وأضاف مُتحدثًا عن الأول: «كان البدر يبدو أمام الرأي العام رجلًا يدعو إلى الإصلاح، ولكنه كان في الحقيقة رجعيًا مُمعنًا في رجعيته»!
   
جاء بعد ذلك الحدث الأبرز المُتمثل بإعادة افتتاح الكلية الحربية في العاصمة صنعاء برئاسة العقيد حمود الجائفي، ثم المقدم عبدالله جزيلان، وهي الكلية التي كانت قد أغلقت بعد أحداث الثورة الدستورية. تلى ذلك إعادة افتتاح كلية الشرطة، وافتتاح مدرسة الأسلحة، ومدرسة ضباط الصف، وكلية الطيران، ومدرسة الإشارة، وهي التحولات التي مَهدت للقوات المسلحة اليمنية أنْ تخطوا خطوات جبارة نحو التطور التحديث، والأهم من ذلك تسلل الأفكار القومية التحررية إلى صفوف طلابها، الذين كان الضابط علي عبدالمغني أحدهم.
   
بدأت مع مطلع العام 1959م بعض المنشورات والمعلومات السرية تتسرب، وقد أشارت بمجملها إلى وجود حركة في صفوف العسكريين تسعى إلى قلب نظام الحكم، وقد أفاد أوبلانس - مصدر هذه المعلومة، وهو مُراسل حربي بريطاني - أنَّ السلطات الإمامية قامت بعد ذلك بإلقاء القبض على عدد من الضباط اليمنيين، وطرد الضباط المصريين الذين ابتعثتهم القاهرة لتدريب القوات اليمنية.
   
وعلى خِلاف أوبلانس، ذكر عدد من المُؤرخين اليمنيين أنَّ الإمام أحمد قام بعد أنْ توترت علاقته مع جمال عبدالناصر باحتجاز الضباط المصريين في قصر الضيافة، وحَرَّم عليهم الاتصالات، ثم أرسلهم إلى القاهرة. وأفاد وجيه أبو ذكرى أنَّ هؤلاء الضباط المطرودين هم من كونوا فكرة صائبة عن اليمن لدى القيادة المصرية، وأنَّ الأخيرين استفادوا من معلوماتهم في التمهيد للثورة أيما استفادة.
   
كما عمل الإمام أحمد على إعادة ترميم البيت الإمامي المُتداعي، وأعاد خلال ذات الشهر ممتلكات بيت الوزير المصادرة منذ فشل الثورة الدستورية، واستدعى قبل ذلك أخيه الحسن من نيويورك، وذلك لحسم مسألة ولاية العهد، وقد حصل الأخير على أموال من ممثلي الاحتكارات النفطية الأمريكية، ورجال الأعمال، وقدمها كرشوة لكبار الإقطاع والموظفين، ولكن دون جدوى.
   
وقف الإمام أحمد بقضه وقضيضه مع ولده الأمير محمد البدر، وكلفه بتشكيل حكومة جديدة لم يكن فيها سوى شخص واحد الأسرة الحاكمة، هو الأمير الحسن بن علي، والأخير شاب طامح، استطاع خلال تلك الحقبة أنْ يكسب إلى جانبه كثير من الأنصار، كان بعضهم من الأحرار الأوائل.
   
والأكثر أهمية أنَّه - أي الإمام أحمد - استغل فشل محاولة اغتياله في مستشفى الحديدة مارس 1961م، وأقر بخطاب رسمي بثته الإذاعة ولاية العهد لولده الأمير محمد البدر، حيث قال: «وقيامًا بما يجب علينا لأمتنا وشعبنا، استخرنا الله سبحانه، وأخذنا على الولد البدر محمد بن أمير المؤمنين حجة الله العظيمة، وعهده الشديد في استقامته، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..».

حَبّلناها وستلد
   تعود البدايات الأولى لتأسيس تنظيم الضباط الأحرار إلى ما بعد فشل الثورة الدستورية ببضعة سنوات، وعن ذلك قال المُناضل أحمد حسين المروني في مُقابلة صحفية، أنَّ أحد ضباط الكلية الحربية (كانت مُغلقة في ذلك التاريخ) زاره ورفاقه الأحرار في سجن حجة 1951م، ونقل إليهم خبر مَفاده بأنَّ هناك تحضير لعمل وطني يتبناه الضباط الأحرار، وأضاف المروني: «وقد استبشرنا خَيرًا، بالرغم من التشاؤم المخيم علينا، فقد كنا على يقين من أنَّ اليمن ستواجه مُتغيرات لصالح الحركة الوطنية». 
   
تعددت خِلال تلك الفترة التنظيمات السِرية وغير السرية الداعية للقيام بثورة جِذرية شاملة، ثورة ترتكز أول ما ترتكز على إلغاء الحُكم الإمامي، وإقامة نظام جمهوري عَادل، وفي مدينتي صنعاء وعدن كما في مدينتي تعز والحديدة، كان العمل يمضي على قدمٍ وساق من أجل تحقيق ذلك، وقد بدأت إحدى تلك الكيانات التحررية - من عُرفت بـ (مجلس التحرير) - بتوزيع المنشورات الناقدة والناقمة على الوضع في مدن اليمن الرئيسية 3 مارس 1956م.
   
وقد كُللت تلك الجهود بتبني مُعظم قادة وأعضاء الاتحاد اليمني (كيان الأحرار اليمنيين الثالث) لخيار الثورة والجمهورية أكتوبر 1957م، وضجت بعض الصحف العدنية بنشر المقالات المُساندة لهكذا دعوة، في حين عملت بعض الأقلام الإمامية وغير الإمامية على تشويهها وتشويه مُتبنيها.
   
تلى ذلك قيام بعض الانتفاضات القبلية والعسكرية في عددٍ من المناطق، ففي أواخر ذات العام (ديسمبر 1957م) شهدت مناطق عمران، وخولان، وصرواح، وقبلها المفاليس، انتفاضات ضد السلطات الإمامية الغاشمة؛ بفعل الجبايات التعسفية التي أرهقت كاهل المُواطنين، فأرسل الإمام أحمد بِحملات عَسكرية لإخمادها، وقد تم لتلك الحملات ذلك، بعد مُواجهات شرسة لم يتوسع المُؤرخون في نقل تفاصيلها.
بعد مُحاولة اغتيال الإمام أحمد في مستشفى الحديدة، أغلقت السلطات الإمامية الكليات والمدارس العسكرية، وهو الأمر الذي حَفَّز عددًا كبيرًا من الضباط ذوي الرتب الصغيرة في الجيش والأمن على إيجاد تنظيم جامع يحتويهم، وبدأوا يفكرون بعمل مُنظم بدلًا من العمل الفردي غير المجدي، وعقدوا لأجل ذلك عدة اجتماعات تمهيدية، ثم أشهروا باجتماع تأسيسي مُوسع ميلاد ذلك التنظيم 10 ديسمبر 1961م، وقد تركز نشاطهم في المدن الثلاث الرئيسية (صنعاء، وتعز، والحديدة). 
   
ومن ديسمبر 1961م وحتى سبتمبر 1962م تولى قيادة التنظيم أربع لجان، انتخبت الأولى فور التأسيس، وانتخبت الأخيرة قبل قيام الثورة بـ 22 يومًا، برئاسة الملازم علي عبدالمغني، والأخير لعب دورًا رئيسيًا وبارزًا في تأسيس ذلك التنظيم وقيادته، وهو من خريجي مدرسة الأيتام والكلية الحربية، وكان همزة الوصل وقناة الاتصال بين زملائه الضباط والقيادة المصرية، كما أنَّه وبشهادة كثيرين كان ذكيًا مُتقدًا، ووطنيًا مُتحمسًا، واسع الاطلاع، ممتلئًا بالشعور القومي، ذا قدرة جبارة في اجتذاب المُتعاونين.
        
ارتبط تنظيم الضباط الأحرار برموز وطنية في القطاع المدني، ونشطت تبعًا لذلك حركة التعبئة في أوساط فئات المجتمع، وفي تعز كان المُناضل عبدالغني مُطهر رجلهم الأمين في القيام بهذا الدور، وقال الأخير في مُذكراته أنَّ الملازم علي عبدالمغني زاره إلى منزله في تلك المدينة أبريل 1962م، وأخبره أنَّ التجمعات الوطنية - بما فيهم الضباط الأحرار - يُريدون حضوره إلى صنعاء للتفاهم معه حول سفره إلى القاهرة، خاصة وأنَّ السلطات المصرية طلبت منهم جميعًا إرسال شخص يكون محل ثقة للتشاور.
   
وبالفعل توجه المناضل عبدالغني مطهر إلى صنعاء، ومنها إلى عدن، ثم إلى القاهرة، والتقى هناك بأنوار السادات، ونقل له صورة شاملة عن الوضع في اليمن، وخلص مطهر إلى القول: «وقد انتهت لقاءاتنا مع المسؤولين في القاهرة بقبولهم التعاون مع الحركة الثورية في اليمن خلال فترة الإعداد للثورة، وحمايتها بعد تفجيرها».
   
وفي صنعاء كان المناضل عبدالسلام صبرة هَمزة الوصل بين قيادة التنظيم والحركة الوطنية المدنية، والأخير تجمعه علاقة مُصاهرة مع الملازم صالح الأشول أحد أبرز قادة ذلك التنظيم، وفي منزله كان الاجتماع المُوسع الذي تم به تحديد ساعة الصفر.
   
في كتابه (التاريخ العسكري لليمن) استند المُؤرخ سلطان ناجي إلى روايات بعض الكتاب الأجانب، ورجح أنَّه قبل قيام الثورة كانت هناك أربع مجموعات مُختلفة تعمل على الإطاحة الفعلية بالعرش الإمامي، اثنتان منها تخصان قبيلتي حاشد وبكيل، والأخريتان تخصان الجيش وتنظيم الضباط الأحرار، وخلص إلى القول أنَّ الأخيرين هم من قاموا بالثورة فعلًا.  
   
كان من المُقرر أنْ تكون تعز مُنطلق الثورة الشاملة، وفي 23 يوليو 1962م تحديدًا، إلا أنْ مَرض الإمام أحمد جعل الضباط الأحرار يؤجلون ذلك، وحين تحقق موت الإمام الطاغية 19 سبتمبر 1962م، لفظت تعز جثمانه، وشهدت صنعاء مقر ابنه الأمير محمد البدر إعلان قيام الجمهورية العربية اليمنية، وذلك بعد سبعة أيام فقط من تولي الأخير الحكم.
   
انتهى دور تنظيم الضباط الأحرار السري في ذلك اليوم الخالد، ولولا السرية المُتناهية التي تميز بها ذلك التنظيم لما قامت الثورة، ليُصبح العمل الثوري بعد ذلك على المكشوف، وصار الأحرار جميعهم في مَعركة واحدة، مَعركة الدفاع عن الجمهورية الوليدة، وضم مجلس قيادة الثورة اثنين من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، هما: النقيب عبداللطيف ضيف الله، والملازم علي عبدالمغني، وقد استشهد الأخير بعد أيام معدودة من تحقيق حلمه الكبير.
   
وهكذا، قامت ثورة 26 سبتمبر 1962م، الثورة التي جاءت لتفصل بين ماضٍ بكل أبعاده وتعثراته، وبين مُستقبل ينضح بالأمل، وتصدر الضباط الأحرار المدعومين من مصر العروبة، مصر الزعيم جمال عبدالناصر المشهد، وتحقق على يد هؤلاء الأبطال (البزغة) - كما كان يحلوا للإماميين أنْ يسمونهم - تحقق وعد القائد العراقي الرئيس الشهيد جمال جميل الذي قال قبل 14 عامًا من ذلك التاريخ في وجه قاتليه: «حَبّلناها وستلد».