Image

النمو الاقتصادي يفشل بمعالجة أمة أمريكية غارقة في نزاعات الهوية

يتمثل السياق التاريخي المعتاد لانهيار القوى العظمى في امتدادها على نحو مفرط، ثم إفلاسها. لكن الولايات المتحدة لا تشهد أي من ذلك. قد تكون البلاد مُعرضة أخلاقياً لنزاعات في الخارج، لكنها تفتقر إلى الدعم في الداخل.

كذلك يمكن استدامة موازنة البنتاغون بسهولة، لأنها لا تشكل سوى نسبة تتخطى 3% بقليل من الناتج المحلي الإجمالي. وبخلاف احتمالية أن يضرب نيزك ما الكرة الأرضية، فلن تُفلس الولايات المتحدة. لكن الطريق الآخر إلى الانهيار أخلاقي، إذ يقع الوسط فريسة للانغماس الذاتي واللامبالاة، ومعها تتحول العضلات الحضارية إلى ترهلات. وثمة صعوبة في التوفيق بين هذا الوضع والنخبة الأمريكية المدمنة على العمل.

ومع ذلك، ولأسباب مختلفة كلياً، فالأمريكيون اليمينيون واليساريون يعتقدون أن الجمهورية على شفا الهاوية، لكن المقاييس التقليدية لا تكشف عن الكثير عن الأسباب. وقد نما الاقتصاد الأمريكي في العام الماضي بنسبة 2.5%، بارتفاع من 1.9% في العام السابق. ومن المُرجح أن يقع النمو الأمريكي هذا العام ما بين هاتين النسبتين.

ويُعد الأداء الاقتصادي للبلاد متماشياً مع ما شهدته البلاد في العقدين الماضيين. وعند مقارنة الأداء الأمريكي ببقية دول العالم المتقدمة، فهو ممتاز. وكان الانتعاش من الجائحة مستنداً إلى تكنولوجيا اللقاحات المُصنعة محلياً. وببلوغه 3.7%، يقترب معدل البطالة الأمريكي من أدنى مستوياته منذ 50 عاماً. وعلى الرغم من أن الكثير من الوظائف محفوف بالمخاطر ومنخفض الأجر، لكنه أفضل من البديل.

إذن، فما خطب أمريكا؟ لا حاجة لإيجاز التهديد الذي يشكّله دونالد ترامب على الديمقراطية الأمريكية، أو الشكوك الشعبية بشأن عمر جو بايدن. ستهيمن هذه الموضوعات من الآن وحتى نوفمبر المقبل. أمّا الذين سئموا تكرار مُجريات يوم الانتخابات الأمريكية، فحري بهم الانتقال للعيش إما في كهف أو إلى نصف الكرة الأرضية الآخر.

إنه لم يمر سوى شهرين بالكاد من «عام الجحيم»، ففي 2024، تصطدم السياسة الأمريكية بعاصفة قوية تنطوي على كراهية حزبية شديدة في مجتمع صارت فيه الخوارزميات أكثر كفاءة عن أي وقت مضى في إثارة حنق الغالبية المُرهقة. وتُعد مثل هذه الأوضاع ملائمة لبروز رجل أعمال غاضب مثل ترامب. وبالنسبة لبقية العام، فمن المُرجح أن تكون أكثر سوءاً مقارنة بما شهدناه حتى الآن.

لكن تكلفة الفرصة البديلة باهظة لأمريكا. في الأوقات العادية، كانت الأحزاب لتناقش حجم عجز موازنة البلاد، الذي تضخم منذ الجائحة ومُتوقع له أن يظل مرتفعاً. فهل يمثل العجز الكبير تهديداً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يكون إصلاح الوضع عن طريق فرض ضرائب أعلى أم تقليل الإنفاق؟ كما تناقش الأحزاب في الأوقات العادية مستقبل الجيش الأمريكي، إذ يرى البعض أن البلاد بحاجة لزيادة حادة للموازنة الدفاعية في وقت تتعدد فيه الأزمات.

يرغب آخرون في إعادة الوجود العسكري الأمريكي إلى البلاد من الخارج. ويخبرنا التاريخ بشروق وأفول الحضارات بفعل نتائج مثل هذه النقاشات. وفي أمريكا المعاصرة، لا تحظى هذه النقاشات بالعرض إلا لدقيقة واحدة بالكاد في ساعات الذروة، وهكذا، تنحصر هذه التساؤلات بين حفنة من مخلوقات المستنقع في واشنطن.

ومع ذلك، فالمذنب هنا ليس حالة اللامبالاة. فقد استحالت الولايات المتحدة مجتمعاً مفتقراً إلى الثقة، ومصاباً بجنون الارتياب في الكثير من النواحي. والسبب الأساسي وراء ذلك هو الكراهية المُتبادلة بين أمريكتين مختلفتين تماماً. تزدري كل أمريكا منهما الأخرى، وتسارع كل منهما إلى تصديق أسوأ ما في الأخرى. وتحرص منصات التواصل الاجتماعي على تعزيز ذلك. وبقدر ما ستحصل القضايا الحقيقية على اهتمام في الحملات الانتخابية، لكنها ستكون معارك ذات محصّلة صفرية بشأن هوية أمريكا. ومن شأن قضايا، مثل الهجرة والحقوق الإنجابية للمرأة والمخاوف بشأن الجريمة والتساؤلات حول التنوع، الاستحواذ على غالبية الوقت المخصص للبث. وحتى وإن تمكّن بايدن من الفوز في انتخابات نوفمبر، فسيكون الاعتقاد بأن ذلك ينزع فتيل الأزمة في السياسة الأمريكية مجرد قفزة ثقة.

وبعد عدد لا يُحصى من المرات، سينخرط الكونغرس الأمريكي في الأيام المقبلة في لعبة شد الحبل فيما يتعلق بإغلاق الحكومة. وإن لم تُغلق الحكومة هذه المرة، فستغلق في المرة التالية. واليوم، صار تهديد الإغلاق الفيدرالي مسألة روتينية، شأنها شأن تعاقب الفصول. وينطبق الأمر ذاته على شبح التخلّف السيادي عن سداد الديون. ومن ثَم، سيكون كل قرار تتخذه الجمهورية وجودياً. أما الدعم الأمريكي لأوكرانيا، فأصبح هو الآخر على المحك. وفي هذا السياق، يقع العائد الدولاري المرتفع لدعم دولة أصغر تحاول البقاء في مواجهة أكثر الخصوم خطورة للولايات المتحدة ضحية لسياسة المحصّلة الصفرية. لكن، هل يقدم لنا التاريخ علاجاً ناجعاً؟ يتمثل هنا المرض الأمريكي في حرب أهلية باردة. وهناك شكوك حول ما يمكن لماضي العالمي أن يخبرنا به عن المزيج الوطني الخاص للولايات المتحدة، المتألف من حُسن الحظ وكراهية النفس.

لقد احتضنت الإمبراطوريات القديمة رجالاً أقوياء لمعالجة عدم الاستقرار، لكن في حالة الولايات المتحدة، لن يسفر هذا إلا عن دمار الدولة. ومن شأن فوز ترامب بفارق ضئيل أن يثير مقاومة، وكذا انشقاقا للولايات الليبرالية. أمّا بايدن، فسيكون مُحاصراً حال فوزه بفارق ضئيل. وبغض الطرف عمن سيفوز، من المُرجح أن يُبصر أعداء أمريكا مزيداً من الفرص. يخبرنا عداد السرعة بأن الولايات المتحدة ماضية في طريقها، وعملياً، لا يبدو أن التعافي قد بدأ من الأساس.