تزايد الدّيْن العام الأمريكي يهدّد بتحرك حراس السندات
عاد حراس السندات إلى الظهور في سوق الديون السيادية. وقد برز ذلك بوضوح لا لبس فيه من خلال عمليات البيع الحادة لسندات الحكومة البريطانية التي أطاحت رئيسة الوزراء البريطانية ليز تروس. فهل يمكن الآن أن يحول المنضبطون الماليون في مجتمع الاستثمار العالمي مواهبهم إلى سوق الخزانة الأمريكية؟
وإذا حدث ذلك، فإن مثل هذا التحدي يمكن أن يدمر دور الولايات المتحدة باعتبارها المزود الرئيسي للأصول الآمنة في العالم خلال الأزمات العالمية، بينما يهدد في الوقت نفسه وضع الدولار كعملة احتياطية بارزة.
بالنسبة لكثيرين، لا يمكن تصور هذه الفكرة. وفي خطاب ألقاه مؤخراً، قال كريستوفر والر، العضو بمجلس محافظي الاحتياطي الفيدرالي، إن الهروب إلى الدولار خلال الأزمتين الماليتين في 2008 و2020 كان «الدليل الدامغ على أن الدولار الأمريكي هو عملة الاحتياطي العالمي، ومن المرجح أن يظل على هذا النحو».
في حقيقة الأمر، نعم. ففي النهاية، يتمتع الدولار بدعم أكبر أسواق الدين العالمية وأكثرها سيولة. ويحظى بما يسميه خبراء الاقتصاد «التأثيرات الخارجية للشبكة»، ويقصد بذلك قبول واسع النطاق يولد استخداماً أوسع. وفي ضوء حصولها على دعم أكبر اقتصاد على مستوى العالم، فالعملة الخضراء تستحوذ على نحو 60 % من احتياطات النقد الأجنبي للبنوك المركزية العالمية.
تجدر أيضاً ملاحظة أنه رغم انكماش حصة الاقتصاد الأمريكي من الناتج الإجمالي العالمي، إلا أن ذلك لم يسفر سوى عن انخفاض ضئيل لحصة الدولار من الاحتياطات العالمية. رغم ذلك، فشل والر بوضوح في أن يأتي على ذكر السبب الأكبر الذي يدفع للتفكير في أن سندات الخزانة لم تعد مخزناً آمناً للغاية للقيمة.
لا يعود الأمر إلى السياسة الأمريكية المختلة على نحو مروع، ولا إلى استخدام الدولار سلاحاً في القضايا الجيوسياسية، ولا التهديد التنافسي المحتمل من تخطيط مصارف مركزية أخرى لتبني عملات رقمية. لكن في الحقيقة، يعود ذلك إلى ازدياد الدين العام الأمريكي وتخطيه نسبة 97 % من الناتج المحلي الإجمالي، وهي مستويات لم تسجل منذ الحرب العالمية الثانية.
إن المقارنة مع فترة ما بعد الحرب مباشرة تعد مفيدة. فقد نجحت الولايات المتحدة في تقليص نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 106 % في عام 1946 إلى 23 % بحلول عام 1974. لكن الدين كان محلياً في الأساس، في حين أن نحو ربعه يقع اليوم في أيادٍ أجنبية. وكانت أسعار الفائدة في الاقتصادات المتقدمة سالبة نحو نصف هذه الفترة وحتى عام 1980. وقدرت كارمن رينهارت وبيلين سبرانشيا، إلى أن التصفية السنوية للدين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بفضل هذه الفوائد السالبة تراوحت بين 3 % و4 % من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً في المتوسط.
وقد نبع ذلك من سياسة ضغط مالي كبير انطوت على إقراض مباشر من مؤسسات الاستثمار والبنوك الأسيرة للحكومة، ووضع حدود قصوى للفائدة وضوابط على رأس المال. وفي معظم الأوقات خلال العقود الثلاثة التالية للحرب، تجاوز معدل نمو الناتج القومي معدل الفائدة على الديون الحكومية، ما أدى إلى تقليص هائل للديون. لكن في ظل تدفقات رأس المال العالمية وتحرير الأسواق من القيود التنظيمية فلن يكون الضغط المالي القوي أمراً قابلاً للتنفيذ اليوم.
وقد رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة للمساعدة في الوصول بالتضخم إلى مستهدف 2 %، واختفت أسعار الفائدة المنخفضة. في الوقت نفسه، يتوقع مكتب الموازنة في الكونجرس الأمريكي ارتفاع عجز الولايات المتحدة بنحو الثلثين في العقد المقبل، على أن تشكل مدفوعات الفائدة ثلاثة أرباع الزيادة. وينبع هذا من الإفراط الخطر في الاستدانة، الناجم عن سياسة نقدية مفرطة في التساهل استمرت لأعوام.
وحتى وزارة الخزانة أفصحت عن كون عبء الدين العام غير مستدام. ويعني ذلك أن سندات الدين الحكومية، التي يفترض أنها آمنة، وهي محور الأسواق العالمية، ربما تكون غير آمنة، ويحتاج علاج هذا الأمر إلى تعزيز المالية العامة، وهذا يعني تقليص الديون، ويأمل البعض في أن نكون أمريكا في حال استقطاب، سواء تحت لواء جو بايدن أو دونالد ترامب، أو أياً من كان.
وكان زوال هيمنة الدولار أمراً متوقعاً منذ فترة طويلة، لكن ذلك لم يحدث أبداً، لأن دولاً كثيرة ليس بمقدورها مضاهاة الأمان والسيولة المفترضة لسندات الخزانة الأمريكية. لكن قد ينهار هذا المنطق في وجه مشكلة مترسخة سلط الضوء عليها خبراء الاقتصاد إيثان إلزتسكي ورينهارت وكينيث روجوف، والذين قالوا إن الطلب على الديون الآمنة المقومة بالدولار يهدد بإرباك قدرة أمريكا على دعمها عندما تتضاءل القاعدة الضريبية. وفي هذه الحالة، سنكون في منطقة مماثلة لانهيار نظام بريتون وودز لسعر الصرف في أوائل السبعينيات، والذي أطلق العنان لعقدين من التضخم المرتفع، وعدم الاستقرار المالي الدائم.
ومن ثم، فمن الآمن توقع أن تصبح الاستقامة المالية النسبية للمقترضين السياديين مصدر قلق أكثر إلحاحاً بالنسبة لمديري الاحتياطات الرسمية. وإذا بدا حراس السندات في الهجوم، فإن تعريف طبيعة الهروب إلى الجودة سيعاد تعريفها، في سياق العاصفة النارية التي ستعقب ذلك، مع وقوع البلدان المسرفة مالياً في أزمات مالية. من ناحية أخرى، سيتضرر المحافظون الماليون، ممن يولدون القليل من الأصول الآمنة، بسبب فقاعات خارجة عن السيطرة في سوق السندات التي لا يمكن السيطرة عليها. لذلك، يجب على صانعي السياسات البدء في التخطيط للطوارئ الآن.