Image

زيادات رواتب الموظفين تربك سياسات البنوك المركزية

يرى الأشخاص العاديون حصولهم على زيادة في الأجور مصدراً للغبطة والسعادة، أما مسؤولو البنوك المركزية، ممن هم على شاكلة شخصية إبينزر سكروج البخيل في قصة تشارلز ديكينز، فيرون هذه الزيادة مدعاة للقلق والإزعاج. وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نمو أجور الموظفين في بريطانيا بما يزيد على %7 في 2023، مقارنة بنسبة 5.5 % في منطقة اليورو (باستثناء لاتفيا وليتوانيا وكرواتيا)، و3.7 % في الولايات المتحدة الأمريكية. لكن ما مدى إثارة ذلك للقلق في الواقع؟

يمكن للأجور أن ترتفع لأسباب عدة. الواضح منها أنها جزء من الاتجاه الصاعد للأسعار بصفة عامة، البالغ قرابة 2 % سنوياً. لكن قد يكون السبب الأفضل هو مكافأة الموظفين على إنتاجيتهم الأعلى، ومن شأن هذا دعم النمو بما يتراوح بين 1 و1.5 نقطة مئوية إضافية.

وقد تشمل المصادر الأخرى لقوة الأجور الحقيقية، انخفاض أسعار الواردات، فمن البديهي أن رغبة الأجانب في بيعنا أشياء أقل ثمناً أمر لطيف يمكن أن يجعلنا أفضل حالاً. أو قد يعود الأمر إلى مساومات الموظفين للحصول على نصيب أكبر من الكعكة الاقتصادية، ما يقلل من هوامش أرباح الشركات. لكن الاعتماد على أي منهما لدفع قاطرة زيادة الأجور للأبد ينطوي على مخاطر، ذلك أن الأجانب متقلبون، كما أن الأرباح ستنفد في نهاية المطاف.

وقد تتسبب مجموعة نهائية من العوامل المحركة لنمو الأجور في إهانة الاقتصاد حتى يوصف بأنه «غير مُستدام». إن مسؤولي البنوك المركزية تصيبهم حالة من العبوس بسبب ديناميكية رفع أرباب العمل للأجور رغبة منهم في الإبقاء على العمالة النادرة. كما يمكن أن يصابوا بالوجوم عند مطالبة العمالة بأجور أعلى لتغطية التكاليف المتزايدة للواردات، وحين لا يرغب أرباب الأعمال بدورهم في استيعاب هذه الزيادة في التكاليف. وبطبيعة الحال، سيعاني شخص إذا قرر الأجانب رفع أسعارهم. الأهم من ذلك كله، أن مسؤولي البنوك المركزية يخشون تماماً من «آثار الجولة الثانية»، أي أن تسفر الأجور الأعلى عن ارتفاع الأسعار، ما يدفع بالتضخم إلى تخطي مستوى 2 %. وفي حالات متطرفة، من شأن هذا التسبب في دوامة للأجور والأسعار.

من الصعب مع ذلك فك شيفرة ما يعنيه كل ذلك للتضخم في أيامنا هذه. وإذا ما نظرنا إلى الولايات المتحدة ومنطقة اليورو وبريطانيا، لوجدنا أن الأجور الحقيقية للموظفين تراجعت في العامين الماضيين. لكن من غير الواضح بالتحديد حجم التأثير الذي لا مفر منه للصدمات الحقيقية، مثل تصاعد أسعار الواردات أو انخفاض الإنتاجية، وما القدر الذي يُعد مؤقتاً عند لحاق الأجور بركب الأسعار على حساب الأرباح.

وعلى المدى المتوسط، يبدو مسؤولو البنوك المركزية متيقنين من وجوب انخفاض النمو الاسمي للأجور إذا أرادوا أن يصلوا إلى مُستهدفاتهم للتضخم. المطمئن هنا أن النمو الاسمي للأجور يبدو أنه بلغ ذروته، وقد لا ينخفض كثيراً في الولايات المتحدة. ومع ذلك، يواجه صناع السياسة صعوبة في الاسترخاء والإحساس بالراحة.

ورغم أن ضيق أسواق العمل لم يكن مصدر الارتفاع الأصلي للتضخم، فإن الخوف الأساسي يكمن في أنه ربما يتداخل مع مهمة إعادة الأجور والأسعار إلى مسار مُستدام. وتشير تقديرات الخبيرين الاقتصاديين، بن بيرنانكي وأوليفييه بلانشارد، هذا العام، إلى أن تأثير محاولة الموظفين «اللحاق بالركب» في الولايات المتحدة للاحتفاظ بدخولهم الحقيقية في مواجهة الصدمة التي تعرضت لها الأسعار كان ضعيفاً للغاية. ولكن بعد أن ضعف تأثير الصدمة المبدئية للتضخم، كان لارتفاع نسبة الوظائف الشاغرة إلى العاطلين تأثير مستمر في قدرة العمالة على السعي لزيادة أجورهم.

وهناك تحذير له علاقة بالأمر من جانب خبراء الاقتصاد لدى «غولدمان ساكس»، الذين حذروا من تفاعل تاريخي بين تصاعد التضخم وضيق أسواق العمل في دفع الأجور إلى الارتفاع. ويعني ذلك أنه مع انخفاض التضخم أولاً، سيتهاوى نمو الأجور بدوره دون التسبب في تدهور كبير بصحة سوق العمل. لكن بمجرد تسجيل التضخم مستويات أقل تطرفاً، سيتطلب خفض الأجور أمراً ينطوي على قسوة شديدة.

ومن الأنباء الإيجابية في منطقة اليورو انخفاض أسعار الواردات أخيراً. وقد لاحظ المركزي الأوروبي مؤشرات على استيعاب الشركات لارتفاع الأجور في هوامش ربحها. ومن شأن كلا العاملين أن يدعما قدراً من النمو للأجور الحقيقية بعد تراجعها الأخير. لكن مع ذلك الإنتاجية كانت مخيبة للآمال. وحذرت إيزابيل شنابل، عضوة مجلس إدارة المركزي الأوروبي، في خطاب ألقته في 2 نوفمبر، من «تكديس العمالة»، أي احتفاظ الشركات بالعمالة، ما سيدفع تكاليف العمل والتضخم للارتفاع.

وربما يشعر صناع السياسات لدى بنك انجلترا بتوتر شديد. وقد استنسخت دراسة حديثة لجوناثان هاسكل وآخرون، الدراسة التحليلية التي أجراها بيرنانكي وبلانشارد، وتوصلوا إلى أن نمو الأجور في بريطانيا اتسم بكونه أكثر استمراراً مقارنة بالولايات المتحدة. وكان النمو السنوي للأجور بقرابة 8 % أقوى مما توقع الغالبية، وحتى أعلى مما رجحته النماذج المعيارية للبنك ذاته.

الأنباء الإيجابية، مع ذلك، تتمثل في وجود مسار نحو شيء أكثر استدامة. وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية انخفاض التضخم على نحو أسرع من النمو الاسمي للأجور في كل من بريطانيا ومنطقة اليورو والولايات المتحدة. ويعني ذلك قدراً من التعافي للأجور الحقيقية للموظف في العامين المقبلين، ما يتماشى مع موجات أخرى بدأت بنمو مرتفع للأجور والتضخم. وهكذا، يمكنك أن تقلق، بكل ما أوتيت من قوة، لكن ما زالت هناك مساحة للتمتع بنهاية سعيدة.