الإيمان الوراثي والإيمان العقلي

05:36 2023/07/12

بداية، يجب التمييز والتفريق بين الإيمان الوراثي والإيمان العقلي. فالإيمان الوراثي هو الإيمان بما آمن به السابقون من الآباء والأجداد دون تفكر أو تدبر أو بحث حول صحة المعتقدات الذي يقوم عليها هذا الإيمان القائم على التقليد الحرفي والأعمى للآباء والأجداد، بغض النظر عن صحة هذا الإيمان أو بطلانه. وهذا الإيمان هو سبب الانتكاسات المتكررة لجميع الأمم السابقة، فقد كان الله تعالى يرسل لهم الرسل والمنذرين يدعوهم إلى الايمان به وحده، لكن إيمان التقليد كان يقف في كل مرة عائقاً ومانعاً في طريقهم ويجعلهم يرفضون دعوة الله تعالى، بحجة أن هذه الدعوة تتعارض مع الإيمان الوراثي الذي وجدوا عليه آباؤهم ، وكان سبباً في كفرهم وغضب الله تعالى عليهم.
 
وإيمان التفكر والتدبر هو الإيمان الذي جاء به رسل الله عليهم السلام، الإيمان الذي يجب أن يقوم على التفكر والتدبر والتبصر والتأمل في الوحي الإلهي وفي آيات الله الكونية، وهو الإيمان الذي يقبله الله تعالى من الإنسان، لأنه ناتج عن يقين وقناعة ويكون سبباً في فوزه برضى الله تعالى. وها هو التاريخ يعيد نفسه فهناك الكثير من المسلمين اليوم يقعون ضحية لإيمان التقليد، نتيجة تقيدهم بالمذهبية الدينية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، بحجة أن ذلك ما وجدوا عليه آباءهم، فهذا مسلم سني لأنه وجد أباه وجده يتبعان المذهب السني، وذاك مسلم شيعي لأنه وجد أباه وجده يتبعان المذهب الشيعي. وهكذا.
 
وعندما تقول لهم الحزبية الدينية والتعصب المذهبي والفرقة في الدين من الأمور التي تتعارض مع واحدية الدين الإسلامي، وتتعارض مع دعوة الله تعالى لعباده المسلمين بالاعتصام والتوحد، قال تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا)، يكون الرد من المتعصبين المذهبيين (هذا ما وجدنا عليه آباءنا). وتقول لهم حتى إذا كان لا يوجد شيء في الاسلام اسمه إسلام سني أو إسلام شيعي يكون الرد (هذا ما وجدنا عليه آباءنا). والدور الكبير لترسيخ هذه المفاهيم في عقول المتعصبين المذهبيين هو لأنظمة الحكم التي تولت السلطة خلال التاريخ الإسلامي وحتى اليوم، باختلاف توجهاتها وسياساتها، فهي من شجعت قديماً وتشجع حديثاً على إيمان التقليد، كونه يُمجِّد الحاكم ويحرم الخروج على الحاكم حتى وإن كان ظالماً، ويشرعن للظلم والاستبداد ويشرعن لتوارث الحكم ويشرعن للطاعة العمياء للحاكم، ويمجِّد الاساطير والأوهام والخرافات التي تصنع هالات القداسة حول السلاطين والحكام.
 
والأنطمة الحاكمة ذاتها هي من حاربت قديماً، وتحارب حديثاً إيمان التفكر والتدبر، لأنه يرفض الظلم ويحارب الظلم بكل صوره وأشكاله، كون الله تعالى أمر بالعدل وحرم الظلم، بل إن الله تعالى قد توعد من يقبلون بالظلم والعيش تحت وطأته بالعذاب الشديد، فكيف يمكن لدين عظيم جاء يحارب الظلم ويوجب إقامة العدل أن يشرعن للظلم والظلمة وأن يشرعن لأنظمة الحكم الفردية والاستبدادية والوراثية والملكية. ولأن إيمان التفكر والتدبر يدعوا إلى إقامة نظام الحكم القائم على الشورى والعدالة والمساواة، لذلك تحارب هذه الأنظمة كل الأفكار الداعية لإقامة نظام الحكم الشوروي، لأنها نتاج إيمان التفكر والتدبر والبحث والدراسة الإيمان الذي يمجد الحرية ويرفض العبودية، والذي يمجد العدل ويحارب الظلم، والذي يمجد المساواة ويرفض التمييز العنصري، والذي يمجد الشورى ويرفض التوريث والخلافة والولاية.
 
وبذلك، فإن المسلم الذي لا يؤمن بالحزبية والمذهبية الدينية ويرفض التقليد الحرفي والأعمى للسابقين، ويؤمن بواحدية الإسلام منهجاً وعقيدة، يكون قد خطى الخطوة الأولى في الطريق الصحيح نحو إيمان التفكر والتدبر، بينما المسلم المتعصب لمذهب أو لفرقة دينية، فهو مؤمن لكنه مؤمن إيمان تقليد، والفرق شاسع بين الإيمان القائم على التفكر والتدبر والبحث وتفعيل العقل، وبين الإيمان الوراثي القائم على التقليد وتعطيل العقل. والمتعصب والمتحزب مذهبياً هو مجرد مقلد للآخرين، السابقين له في التحزب الديني والمذهبي. الذي ما جاء به من سلطان، وإيمانه هو مجرد إيمان تقليد وهو إيمان ناقص لأنه لم يكلف نفسه مجهود التفكر والتدبر والبحث، والمتحرر من قيود العصبية الحزبية الدينية والمذهبية ، والمطلق العنان لعقله وفكره في  تدبر آيات القرآن الكريم، وفي التفكر في هذا الكون الفسيح، وفي مناقشة كل الآراء والأفكار والاجتهادات الدينية البشرية، وإخضاعها للشرع والعقل والعلم والمنطق، هو في طريقه نحو إيمان التفكر والتدبر، وهو الإيمان الصحيح الكامل الذي يحبه الله تعالى ويرضاه ويقبله.