Image

المرأة كائن هامشي في زمن الحوثيين

عانت المرأة قديما وحديثا في ظل حكم الجماعات الدينية المتطرفة، ففي الوقت الذي نجد فيه دولة كالصليحيين تعلي من شأن المرأة وتجعل منها ملكة مستلهمة تجربة بلقيس ملكة سبأ، تأتي دولة الأئمة لتجعل من المرأة كائنا يجلب العار والشنار وحولتها إلى كائن مضطهد مستعبد لا قيمة لها ولا مكانة. 
 
ثم جاءت ثورة سبتمبر الخالدة في العام 1962 وأعادت للمرأة اليمنية بعض اعتبارها والذي تحول مع الوقت وفي ظل عهد الزعيم الراحل علي عبد الله صالح إلى نهج معمول به دستورا وقانونا، فرأيناها إلى جانب أخيها الرجل في مختلف جوانب الحياة؛ طبيبة ومهندسة وقيادية ونيابية وقاصة وأديبة وكاتبة... الخ، وإذا بمليشيا الإرهاب والظلام القادمة من كهوف الجهل والتخلف تعلن حربا مسعورة لا هوادة فيها ضد المرأة، فأقصتها من التعليم ومن الوظيفة العامة ومن العمل ومن كل شيء حتى من الحياة. 
 
مطاعم محرمة
 
في منعطف من معطفات نقيل سمارة، حيث يمر الخط الرئيسي الذي يصل العاصمة صنعاء بمحافظتي إب تعز، تقع قرية حليل التي اشتهرت بمطاعمها البيتية التي تصنع فيها النساء الأكل ويقدمنه بأنفسهن. يحط المسافرون رحالهم مع عائلاتهم عند هذا المطعم أو ذاك، بعد أن تكون صاحبة المطعم قد استقبلتهم بمنتهى اللطف والتهذيب والاحترام، ليتناولوا وجبات الغداء أو العشاء أو الإفطار طازجة شهية يلعقون أصابعهم بعده. 
 
قبل سنوات أقدمت مليشيا الإرهاب الحوثية على اقتحام القرية بعشرات الأطقم وأغلقت كافة المطاعم في حليل، بدعوى أنها "وكر للسفور والفجور"، وأن المرأة التي تفتح مطعما بمثابة "زانية"، هكذا قذفا وزورا وطعنا في أعراض الناس كدأب وديدن العصابة الإرهابية. 
 
هذه المطاعم أصبحت خاوية على عروشها بعد أن كانت تضج بالحياة طوال اليوم. 
 
تقول رانيا، ابنة صاحبة أحد المطاعم في حليل، إن القرار الذي اتهذته عصابة الحوثي الإرهابية بإغلاق المطاعم كان كارثيا بكل المقاييس، حيث كانت جميع أسر هذه القرية تعيش على مصدرها الوحيد في الرزق والمتمثل في فتح الدور الأول من بيوتهن كمطاعم. 
 
وتضيف رانيا في حديثها لـ"المنتصف نت": "والآن أصبحت كما ترون خاوية على عروشها ومغلقة طوال الوقت، ولم يعد لدينا ما نعمله سوى انتظار الموت". 
 
تبكي رانيا بحرقة وهي تتذكر كيف أن أمها ماتت بعد أشهر من إغلاق عصابة الحوثي مطعمهم الذي كان هو مصدر دخلهم الوحيد. باعت أثاث المطعم وفتحت لزوجها حانوتا صغيرا لبيع السجائر وعلب الماء للمسافرين، وأسلمت روحها لبارئها مستجيرة إلى الله بأن يقطع أرزاق من قطع رزقها هي وأسرتها وأن ينكل بمن نكل بهم. 
 
أمها واحدة من عشرات الأمهات اللواتي نكل بهن الحوثي وجعلهن يعشن البطالة ويشارفن حياة التسول والامتهان بعد أن كن معززات مكرمات. 
 
وفي حادثة مماثلة، تحدثت لـ"المنتصف نت" إحدى العاملات في مطعم الخطيب بالعاصمة المختطفة صنعاء عن سبب إغلاق المطعم قبل أشهر من قبل مليشيا الحوثي. 
 
وقالت العاملة التي اشترطت عدم ذكر اسمها إن السبب الحقيقي هو إدارة المطعم سمحت للعديد من النساء بالعمل كمحاسبات ومباشرات في المطعم بزي موحد مثلهن مثل الرجال العاملين، وأن المليشيا اعتبرت ذلك سفورا واختلاطا، فعملت على ممارسة أقصى أنواع الضغوط على صاحب المطعم ولفقت تهما عدة قبل أن تقوم بإغلاقه. 
 
وأضافت أنها الآن بلا عمل ولا تجد من يعول إخوتها الذين تحملت مسؤوليتهم باعتبارها البنت الأكبر، حيث إن والدها قد توفي، فيما أمها عاجزة عن القيام بأي عمل. 
 
وتابعت: "الحوثي يريد أن يحولنا إلى بلطجيات يجندهن لتنفيذ مآربه أو إلى متسولات أو أن نلزم بيوتنا لنجوع ونموت". 
 
لم تنس عاملة مطعم الخطيب أن تذكر بكونها خريجة جامعة ولديها بكالوريوس في الإعلام، وأن الحاجة وحدها أجبرتها على العمل في مطعم، ولكنها مع ذلك تعتبر عملها في المطعم أقدس وأشرف من أن تعمل في وسيلة إعلام حوثية، مضيفة: لن تكسرنا مليشيا الإرهاب ولن نستسلم له ليستعبدنا، بل سنناضل وننتزع حقوقنا ونذيقه هزيمة نكراء عاجلا أم آجلا. 
 
في أواخر العام الماضي، أثيرت ضجة في مواقع التواصل الاجتماعي حول قرار لعصابة الحوثي يقضي بمنع النساء من دخول المطاعم بدون عقد الزواج والبطاقة العائلية.
 
لم يكن القرار صادما، بحسب تقارير حقوقية، حيث إنه يأتي ضمن توجهات هكذا جماعة متطرفة، وبالفعل كانت عدة مطاعم في منطقة حدة بالعاصمة صنعاء قد امتنعت عن إدخال أي رجل مع امرأة، مشترطة الدخول بإبراز عقد الزواج، وعرض وتصوير عقد الزواج والبطائق الشخصية للعائلات الراغبة في تناول الوجبات في المطاعم.
 
التقارير أشارت حينها إلى أن نحو 10 من مطاعم مديرية السبعين، بالعاصمة صنعاء، بينها مطعم زهرة الليمون، منعت الرجال الراغبين في تناول وجبات في المطاعم، من دخولها، دون إحضار تلك الوثائق، وهو الأمر الذي سارعت عصابة الحوثي إلى التنصل عنه وعن أي دور لها في القضية التي أثيرت في مواقع التواصل الاجتماعي.
 
وأصدرت المليشيا في 2 ديسمبر بيانا تنصلت فيه، عبر ما يسمى المجلس المحلي لمديرية معين في العاصمة، عن مسؤوليتها في اتخاذ مثل هكذا إجراءات، وصفتها بالقمعية، وأنها إنما جاءت من قبل إدارة أحد المطاعم التي تصرفت من تلقاء ذاتها وفق "اللائحة الداخلية" للمطعم، الأمر الذي أثار سخرية أكبر من قبل الناشطين، حيث اعتبروا أن ما قدمته من أعذار هو بمثابة مداراة لسوأة ما تقدم عليه من حين لآخر. 
 
قمع ممنهج
حملات تحريض وتشويه وابتزاز ممنهجة، ومضايقات وقرارات تهدد وجود النساء ومشاركتهن في الحياة العامة، وتحد من وجودهن ضمن الفضاء العام للمجتمع اليمني.
 
لم تسلم طالبة ولا معلمة ولا طبيبة ولا موظفة ولا حتى متسولة من مضايقات مليشيا الحوثي وحملاتها القمعية، بل حتى المحسوبات على المليشيا واللواتي تم استغلالهن في السابق لتمرير أجندة معينة أصبحن يعانين هن أيضا.  
 
في رسالة لناشطات وقيادات حوثيات بعثنها لحكومة الحوثي غير المعترف بها في فبراير من العام الحالي، جاء فبها أن هناك مخاوف حقيقية من "أن يكون هناك توجه عام لإقصاء المرأة من العمل العام أو تهميشها يكشف بالتدريج عن وجهه بعدة طرق أو إجراءات"، 
 
ومن بين تلك المخاوف "تعميمات تظهر بين فترة وأخرى تقيد وتعيق حركة النساء إما بطلب المحرم أو إجراءات إدارية نعتبرها معرقلة لسفر النساء، وكذا الفصل بين الموظفات والموظفين في بعض المؤسسات والوزارات بحجة منع الاختلاط والحرب الناعمة ما أعطى فرصة للكثير لإقصاء المرأة وتنحيتها عن العمل، والرفع برؤى من بعض الجهات بإلغاء قطاعات المرأة في بعض الوزارات بحجة تقليص الهيكلة والتضخم الوظيفي، بالإضافة إلى خطب الجمعة التي تركز على التحريض على النساء اليمنيات وتخويف الأهالي وتحذيرهم من دراستهن في الجامعة أو التحاقهن بالعمل أو الخوف على حشمتهن".
 
الجدير ذكره أن عصابة الحوثي الإرهابية، منذ سيطرتها، دأبت على توجيه أسئلة استفزازية وتهكمية للنساء اللواتي يسافرن بمفردهن، بل وحتى إذا كان هناك محرم مع المرأة، فإنهم يطالبونه بإثبات علاقته بها، على سبيل المثال: من خلال إبراز شهادة عقد الزواج، أو بطاقات الهُوية.
 
وفي مطلع العام 2021، أصدرت المليشيا تعميمًا يقتضي منع سفر النساء بدون مَحْرم. ثم أتبعته في سبتمبر 2021 بتعميم لاحق نص على منع أي امرأة من توقيف باص أو سيارة (بما في ذلك وسائل المواصلات العامة) دون مَحرم. وقد تم تطبيق هذه التوجيهات في مختلف المناطق، على سبيل المثال مدينة حجة، وفرض مبلغ 200 ألف ريال (أي ما يعادل 330 دولارًا أمريكيًّا)، ورأس بقر، على من يخالفن هذه التوجيهات.
 
وفي أكتوبر من نفس العام، أفادت مواقع إخبارية، نقلا عن أحد مكاتب السفريات المعتمدة في صنعاء، بأن تعميما تلقته المكاتب قبل أعوام، ألحق بتعميم جديد صادر عن هيئة النقل البري في التابعة لوزارة النقل، وهو التعميم الذي ذُيل بتهديد مفاده أن من لم يلتزم تلك التوجيهات يتعرض للمساءلة القانونية.
 
قضى التعميم بأنه في حال عدم وجود محرم مرافق، فإن شركات النقل البري ملزمة برفع توكيل معتمد من المحرم مرفقاً بصور لهوية المسافرة إلى هيئة النقل، قبل تحرك مركبة النقل من صنعاء، وتوزع نسخ أخرى من التوكيل والوثائق لنقطة عسكرية في منطقة يسلح على المدخل الجنوبي للعاصمة صنعاء، إضافة إلى النقاط العسكرية في مداخل المدن الخاضعة لسيطرة عصابة الحوثي الإرهابية.
 
وفي تقريرها الحقوقي الأخير، أكدت منظمة سام الحقوقية، التي تتهذ من سويسرا مقرا لها، أنه مع فرض عصابة الحوثي سياسة المَحْرَم واشتراط موافقة ولي الأمر على ممارسة المرأة كافة أنواع الأنشطة، بما في ذلك التنقل والسفر، فإنه امتثالًا لهذه السياسة، بدأت الخطوط الجوية اليمنية بطلب موافقة رسمية من ولي الأمر لحجز مقاعد للنساء على متن رحلاتها، بل وأيضًا اشتراط مرافقة أحد أقارب المرأة لها حتى تصل إلى مقعدها.
 
 
زينبيات أم بلطجيات؟ 
بحسب مراقبين، فإن المفارقة التي تدعو للاستغراب هي أنه في الوقت الذي مازالت مليشيا الحوثي الإرهابية تعتبر المرأة بمثابة عار وعورة، انطلاقا من أفكار مترسخة مذهبياً، بالإضافة إلى أسباب سياسية تهدف من خلالها إلى إخضاع وتركيع المجتمع عبر تهديده بالشرف، نجدها تكرس نموذجا للمرأة يمارس كل أشكال البلطجة والسوقية، وهو النموذج المتمثل بما تسمى "الزينبيات". 
 
أنشأت عصابة الحوثي هذا الكيان القمعي تحت مسمى "الزينبيات" لتكون مهمته الأساسية اعتقال وملاحقة النساء، ومداهمة المنازل، بل ومراقبتهن حتى في المناسبات، فارتفع عدد النساء في السجون منذ العام ٢٠١٩ إلى أعداد مهولة، في سابقة لم تشهد اليمن مثلها، بحسب منظمات محلية ودولية.
 
في نوفمبر 2022، أصدرت الشبكة اليمنية للحقوق والحريات تقريرا حقوقيا، كاشفة عن 1,444 واقعة انتهاك ارتكبها الجناح العسكري النسائي التابع لجماعة الحوثي (الزينبيات)، خلال الفترة من ديسمبر 2017 وحتى نهاية أكتوبر 2022، من قتل واعتقال واحتجاز تعسفي للنساء ونهب واعتداء جنسي وضرب وتعذيب، وتسهيل عمليات اغتصاب في مراكز الاحتجاز السرية، وملاحقة عدد من الناشطات اليمنيات، والاعتداء على المعتصمات في بعض المحافظات التي تسيطر عليها جماعة الحوثي، إضافة إلى التجنيد الإجباري لبعض فتيات المدارس والجامعات. 
 
أما منظمة سام، فأكدت أنها سجلت في الفترة منذ بداية انقلاب المليشيا إلى نهاية ٢٠٢٢، أكثر من 5000 حالة انتهاك حتى نهاية 2022، شملت القتل، والإصابات الجسدية، والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب والمنع من التنقل.