Image

البائعون المتجولون في صنعاء.. بين لسعات المطر ونار الحوثي

مع كل موسم للأمطار، تتحول شوارع العاصمة المختطفة صنعاء إلى وحل ومستنقعات يصعب معها التحرك إلا بشق الأنفس، ناهيك عن السيول التي تباغت منازل المواطنين هنا وهناك، بفعل عدم وجود تصريف لها بعد انسداد قنوات التصريف وخضوع القناة الرئيسية (السايلة) لعمليات صيانة لا تنتهي من قبل مليشيا الحوثي في عمل لنهب المال العام. 
 
تجوال في الوحل
 
وبالرغم من أن المعاناة تصبح هي لسان حال الجميع، إلا أنها تأخذ لونا مأساويا عند البائعين المتجولين الذين يعانون الأمرّين: الوقوف في البرد والبلل والخوض في الوحل وما بين جبايات الحوثي. 
 
لا يستطيع أحد منهم الاحتماء في هذا الركن أو ذاك تاركا عربيته تواجه المعاناة وحدها، بل يظل يقودها بمشقة وبأقل الخطى بطئا، متلقيا صفعات زخات المطر باستسلام وعدم مقاومة، كما لو كان فقط ينتظر متى ينتهي هذا العناء، فيعود بأقل الخسائر من حيث أتى.
 
لا يكفي ما يكون قد حرّز به بضاعته من غطاء بلاستيكي يتوسله لمثل هذه المواقف حتى يطمئن إلى أمر ألا يتسلل إلى بضاعته البلل فيفسدها، بل تراه قد تنازل عن غطائه هو أيضا لصالحها، بلسان حال يقول:
 
سأحتمل العناء كاملا أفضل من أن يفسد علي ما بقي لي من رزق. 
 
يصعد ببصره مرارا إلى السماء، ولا يعلم إلا الله كم صلوات يكون قد أداها في تلك الأثناء، وهو يواصل طريقه بلا وجهة. يحاول أن يتجنب قدر الإمكان ما يواجهه من وحل، لكنه لا يستطيع، وذلك ببساطة لأن كل الطريق أمامه عبارة عن وحل.
 
خيال سوريالي
 
حتى الشوارع المسفلتة، هي الأخرى تتحول إلى ما يشبه بحيرات تصلح للعوم أو لإخراج بعض أصحاب المزاج المستمتع والإمكانيات اليسيرة قوارب بلاستيكية بمجاذيف، فيتمثلون مشهدا فيلميا كما لو كانوا في مدينة البندقية أو فيينا. لكن هذا المشهد السوريالي لا يترك لمخيلة اليمنيين أن تذهب بعيدا إلى ذلك الحد، بقدر ما يكون تعبيرا عن سخرية تسمعه الجارة ولا تفهمه. والجارة هنا ليست سوى عصابة انفلتت فجأة من خارج سياق التاريخ لتقصم ظهر اليمنيين وترزح على كاهل حاضرهم ومستقبلهم ككابوس لا يريد أن ينتهي. 
 
فتوى فقهية
 
يقول عبد الحاج، صاحب عربية لبيع كيزان الذرة، التقته "المنتصف نت" في منطقة سعوان بالعاصمة المختطفة صنعاء، إن يومه ينتهي عند أول سحابة تتجمع في السماء، فيكون قد لزم مكانه دون أن يغامر بالخوض في هذا الزقاق أو الشارع، وذلك ببساطة لأن عربيته تلزم مكانها اضطرارا لأن ما تبقى لديها من عجلات هي عبارة حديد بلا إطارات وتستلزم دفعها بالتعاون مع ابنه الذي لا يتجاوز عمره العشر سنوات. 
 
لكنه قد ينسى أحيانا ذلك فيلتهي بإبقاء ما تيسر له من فحم (سود) مشتعلا يشوي عليه كيزان الذرة، مستعينا بما بيده من صفيحة بلاستيكية يمررها بخفة ورشاقة لإضفاء القدر الكافي من الهواء الذي يحتاجه الجمر، فلا يدري إلا وقد باغته المطر المتسارع الذي لا يترك له فرصة للتصرف، وإذا بما كان محمرا أمامه من الجمر قد انطفأ دفعة واحدة، لا يملك معها إلا أن يبتسم بمرارة. 
عبده الحاج، ثلاثيني مخط الشيب رأسه مبكرا، أب لثلاثة أولاد وبنت، امتهن مهنة بيع كيزان الذرة دون غيرها، وأصبح لديه علاقة حميمية مع الفحم وما يتركه من سواد على يديه وبعض أنحاء جسده ينسيه أمر مشيبه مبكرا. يضحك من تلك المفارقة التي قد يجدها في غير محلها، خصوصا أن بيع كيزان الذرة في رمضان أمر غير مستحب فقهيا من وجهة نظره، كونه خريج شريعة وقانون، فضلا عن كون موسم الأمطار يجعله غير مستحب مرتين. لكنه رزق مقسوم كما يقول، وأفضل من أن ينتظر شفقة من أحد، خصوصا تلك الشفقات الموسمية التي لا تأتي إلا مع هذا الشهر. فمهما يكن من أمر، لا بد أن يحول الله بمن يشتري حتى كيزانا نيئة تكون ما تزال مغلفة بأغلفتها الخضراء الكثيفة. وعندما لا يكون ثمة شوي على الجمر، يكون عبده الحاج قد أوكل الأمر لابنه وذهب إلى مشاغل لا تنتهي، حسب قوله، قبل أن يعود في النهاية فيتعاونان معا في دفع العربية ذات العجلات الكسيحة. 
 
تين بجبايات شائكة
 
الأمر أحسن قليلا بالنسبة لبائع البلس محمد الريمي، والذي يستطيع التنقل بشكل أفضل. محمد يبيع التين الشائك أو ما يطلق عليه في اليمن "بلس الترك"، والذي يجلبه في ساعة مبكرة من منطقة خولان جنوب شرق العاصمة. يبدأ يوم محمد مبكرا على العكس من عبده الحاج، حيث بضاعته تستلزم الخروج إليها بعد صلاة الفجر، وحملها عبر صفائح زنكية. كل يوم يشتري صفيحتين أو ثلاثا ويعود بها إلى عربيته موزعا أكبر قدر من فاكهة التين بانتظام، بعد أن يكون قد أخلى شوكها اللاذع قدر استطاعته. ترى الحبوب من أثر الشوك بادية في يديه بكثافة، حيث لم يعد يعوّل على التقاط أي منها إلا ربما في المساء عندما يعود. أما الجونتيات البلاستيكية التي قد تقي يديه الشوك فلا أهمية لها بالنسبة له، حيث تعوقه عن عمله كثيرا كما يقول. 
 
وعلى خلاف عبده الحاج، لا يقتصر محمد الريمي على بيع التين الشائك، بل تتبدل بضاعته بحسب الموسم أو الطلب. فلأن التين فاكهة مرغوبة جدا في رمضان، خصوصا عندما يراها الصائم في ساعات ما بعد العصر مغرية جدا فيسيل لها لعابه، ولا يملك إلا أن يشتري منها قدر ما يستطيع، فإنه يحرص على بيع هذه الفاكهة خلال شهر رمضان.
 
لكن المطر قد يمنع المشترين من الخروج فيضطر محمد إلى التنقل في عدة أماكن، حتى لو كلفه ذلك عناء الخوض في الوحل وحمل إطارات عربته أكبر قدر من الطين. لكن ذلك بالنسبة له أمر عادي جدا، فكل شيء يهون إلا عندما تستوقفه النقاط الحوثية عند عودته ببضاعته من خولان وتجبره على دفع إتاوات باهظة كل يوم، حيث تأخذ على كل صفيحة تين ثلاثة آلاف ريال، وهذا مبلغ جائر قياسا ببضاعته، فإذا كانت الصفيحة الواحدة تحوي مائة تينة تزيد قليلا أو تنقص، والتينة الواحدة محسوبة عليه بخمسين ريالا، فإن التضريب عليها في نقاط المليشيا يجعل سعر التينة بثمانين ريالا، وبالتالي لن يبيعها بأكثر من مائة ريال. أي أن ربحه لن يتجاوز الألفين ريال مع كل صفيحة. 
يقول محمد لـ"المنتصف نت": العسكري الحوثي يتسلم مني كل يوم تسعة آلاف ريال وقد تصل إلى عشرة آلاف، وهو جالس مرتاح في بقعته بصورة مقلوبة أعوذ بالله. وأنا صاحب الشأن لا أحصل يوميا على نصف ما يحصل عليه". 
ويضيف: "لكن ليس لنا إلا الله نلتجئ إليه، أما أن نعول على أحد غيره فهذا من باب اللغو". 
 
تلميع لوجوه وقحة
 
في الآونة الأخيرة، تداولت وسائل إعلام عصابة الحوثي صورة لرئيسها المدعو مهدي المشاط مع الطفل الذي اعتدى عليه أحد مسلحيها في أحد أسواق العاصمة صنعاء، عندما حاول الدفاع عن والده صاحب بسطة خضار، فرفعه المسلح الحوثي بكل عنجهية وصفاقة ودفع به مسافة أمتار ليقع مرتطما على الأرض. مقطع الفيديو الذي صور حادثة الاعتداء على الطفل كان من الانتشار في مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث لم تجد عصابة الحوثي ما تفعله إزاءه إلا الإتيان بالطفل والتقاط صورة له مع المشاط كنوع من الاعتذار له وإلزام المسلح الحوثي بطلب العفو من والد الطفل. 
 
صورة المشاط مع الطفل هي عبارة تلميع لوجوه وقحة استمرأت فرض جباياتها الجائرة. ومقطع الفيديو هو الذي أرغم مليشيا الحوثي على الاعتذار ولا شيء غيره.
 
لكن الاعتذار هو من السخرية بمكان، بحيث يستلزم مع كل حادثة اعتداء من قبل هذه العصابة أن يكون هناك مقطع فيديو يصور الحادثة، وهنا سيحتاج اليمنيون إلى تصوير مئات المقاطع يوميا حتى يُظهروا لهذه  الفئة مدى بشاعتها وقبحها وإجرامها الذي تمارسه بحق اليمنيين.