ترسيخ ثقافة العبودية والتبعية في الفكر السياسي والاجتماعي العربي

12:51 2023/04/08

من يبحث في الفكر السياسي العربي، سوف يندهش من هول الجهود الحثيثة للأنظمة الحاكمة في العالم العربي عبر تاريخها الطويل لتجذير وترسيخ ثقافة العبودية في أوساط المجتمع العربي، بما يتناسب مع توجهاتها ومصالحها السياسية، وبما يلبي طموحاتها للاستمرار في السلطة أطول فترة ممكنة وترسيخ العبودية والتبعية كثقافة مجتمعية ليس بالأمر السهل، بل إنه من الصعوبة بمكان لأنه يتنافى مع الفطرة الإنسانية التي تنزع نحو الاستقلالية وتعشق الحرية وترفض العبودية والذل والهوان. كما أن هكذا ثقافة تتعارض مع المنهج الإسلامي الذي منح الإنسان كل الحقوق والحريات الإنسانية، بما فيها حرية العقيدة وحرية الفكر وحرية الرأي والحرية السياسية. 
 
ورغم ذلك، ونظراً للجهود الكبيرة جداً والمتواصلة دائماً بدون كللٍ أو ملل من أنظمة الحكم العربية، عبر سياسة القهر والقوة والغلبة والإذلال، ومن خلال استخدامها لأدوات القمع والبطش والتنكيل والترويع والقتل ومصادرتها للحقوق والحريات، أصبحت ثقافة العبودية والتبعية في المجتمعات العربية واقعاً ملموساً ومتعارفاً عليه ومتعايشاً معه، وأصبحت المطالبة بالحريات والحقوق الإنسانية أمراً مستغرباً في بعض المجتمعات العربية ومنكراً وخروجاً عن المألوف والعادة في بعضها الآخر. بل إن التسابق في تقديم فروض الولاء والطاعة للقائمين على السلطة الحاكمة هو الأمر الرائج، وهو ميدان السباق الحقيقي بين غالبية أفراد المجتمع العربي، في ظل هيمنة ثقافة العبودية والتبعية، والتي أفرزت مجتمعات تمجد الطغاة والمستبدين، مجتمعات كل ما تستطيع فعله هو عزف سيمفونيات النفاق السياسي، مجتمعات تتلذذ بسياط الجلادين وهي تلسع جلودها. 
 
وللأسف الشديد، فإن التشريعات الإسلامية التي تحمل في طياتها ثقافة الحرية والتحرر، والتي تمنح الإنسان كامل حقوقه وحرياته، والتي تؤكد على مبدأ المساواة بين الحاكم والمحكوم، والتي تجعل من الحاكم مجرد أجير في خدمة الشعب، والتي تجعل من السلطة مغرماً وليس مغنماً، والتي تجعل من الشورى الوسيلة الوحيدة للوصول إلى السلطة، لم تسلم من مساعي أنظمة الحكم العربية الجريئة الهادفة إلى تفسيرها وتأويلها وتطويعها وتكييفها بما يتوافق مع سياساتها القائمة على تعزيز ثقافة العبودية في أوساط المجتمع العربي، من خلال تسخير علماء وفقهاء السلطة للقيام بهذا الدور الخطير الذي يتنافى ويتعارض مع حقيقة وأهداف وغايات تشريعات المنهج الإسلامي التحررية والحضارية الرافضة لكل صور العبودية والتبعية العمياء. 
 
كما أن أنظمة الحكم العربية لم تأل جهداً في تجذير ثقافة العبودية والتبعية في أوساط المجتمع العربي بكل الوسائل والسبل، ومنها على سبيل المثال استغلال الأمثال الشعبية والمجتمعية في هذا المجال، كونها تظل قريبة إلى اللسان وحاضرة في الوجدان، ومع مرور الأيام تترسخ هذه الأمثال وتتحول إلى قواعد عامة متعارف عليها، كجزء من التراث والثقافة والتجربة والخبرة الواجب احترامها واتباعها والاقتداء والعمل بها، خصوصاً عند ذوي الثقافة المحدودة الذين ينظرون إليها كقواعد رئيسية لا يجوز مخالفتها. 
 
ومن تلك الأمثلة الشائعة والمتداولة والمتعارف عليها في المجتمع اليمني في هذا المجال، على سبيل المثال لا الحصر (من تزوج أمنا كان عمنا)، (في دولة القرد قول للقرد يا سيدي)... وهكذا. وعند النظر إلى هذه الأمثال الشعبية، فإنها في حقيقة الأمر تقوم بتجذير وترسيخ وتأصيل ثقافة العبودية والتبعية في أوساط المجتمع وتؤسس لمجتمع تابع وخاضع وتسلب أفراده حتى مجرد التفكير في مقارعة الظلم والظلمة والطغاة في كل زمان ومكان، وتنزع من عقولهم وفكرهم كل طموحاتهم في الحرية والتحرر والمشاركة السياسية، وتحرمهم من المطالبة بأبسط حقوقهم الإنسانية وتمنعهم من ممارسة أبسط حرياتهم السياسية. 
 
وللأسف الشديد، الملاحظ أن أنظمة الحكم الخاضعة لأيديولوجيات دينية أو نظريات سياسية قمعية هي الأكثر حرصاً على تجذير ثقافة العبودية والتبعية في المجتمعات الواقعة تحت سلطتها، كونها تصبغ هذه الثقافة بصبغة دينية وإيديولوجية تحت مسميات مختلفة. وهي بهكذا أساليب لا تدرك أنها تصنع مجتمعات ضعيفة خائفة مترددة، مجتمعات سلبية فاقدة لكل ما له علاقة بالإيجابية والإبداع والابتكار والمبادرة، كون هذه الأمور مرتبطة ارتباطا مباشرا بالحرية والمشاركة والتعددية. وهكذا مجتمعات هي مجتمعات ساكنة وجامدة وجاهلة، ومكانها الطبيعي هو مؤخرة الركب الحضاري للأمم. وهذا حال المجتمعات العربية، في ظل هيمنة ثقافة العبودية والتبعية على الفكر السياسي العربي.