Image

في البحرين استعادة مبدعة للماضي

 كنت مؤخراً في البحرين لإلقاء محاضرة في مركز الشيخ إبراهيم بن محمد الخليفة للتراث والثقافة، لكن المحاضرة التي تناولت ما دعوته «هجرة المفاهيم وتحولات الثقافة» قادت إلى هجرة وتحولات من نوع آخر، هجرة في الزمان وتحولات المكان تبينت لي من خلالها معالم مشروع ثقافي حيوي يستدعي هجرة الماضي إلى الحاضر بغية إغراء الحاضر ببعض منجزات الماضي. كان ذلك المشروع الذي تقوده منذ أعوام الشيخة مي آل خليفة، الرئيسة السابقة لهيئة البحرين للثقافة والآثار، والرئيسة حالياً للمركز الذي أسسته باسم جدها الشيخ إبراهيم آل خليفة، أحد رواد الثقافة في البحرين في فترة لم يكن الكثيرون يدركون قيمة العلم والمعرفة وضرورة اللحاق بركب الحضارة. وكان من اللافت أن ما تأسس عليه المشروع دعامتان: إحياء المساكن القديمة بعمارتها التقليدية، وتقديم معرفة وإبداع معاصرين بأحدث التقنيات المتاحة.

إحياء أواسط المدن ظاهرة عرفتها مدن عديدة في الوطن العربي وخارجه في العقود الأخيرة، وهي في جوهرها حركة منسجمة مع تيار ما يعرف بما بعد الحداثة، التيار الذي سأتوقف عنده بعد قليل. هنا أشير إلى أن الإحياء الذي تقوده الشيخة مي آل خليفة في البحرين وباقتدار لافت وباعث على الإعجاب مختلف عن ألوان الإحياء الأخرى: إنها لا تسعى إلى ترميم المباني القديمة أو إعادة تعمير الأحياء المتداعية فحسب، وإنما تحافظ على المباني والسكان معاً، بحيث تظل المساكن مساكن، أي آهلة بالناس، وهو ما حققت فيه نجاحاً لافتاً، كما أنه ما لم تتمكن من تحقيقه مشاريع إحيائية مشابهة في مدن أخرى في المنطقة وخارجها، مناطق هجرها أهلها ولم يعودوا إليها. هنا يتحقق «إحياء» فعلي أو حقيقي بمعنى إعادة الحياة إلى البيوت المهددة بالزوال، وذلك بتشجيع أهلها على البقاء أو العودة عن طريق الدعم الذي يجدد المساكن ويجعلها صالحة للعيش المريح. وهذا بالفعل ما حدث وما يشاهده الزائر وهو يرى البيوت عامرة بأهلها الذين كان الكثير منهم على أهبة الانتقال إلى فيلات حديثة خارج مدينة المحرق القديمة. والحق أن زائر البحرين اليوم لا يستطيع أن يخفي انبهاره بما يحدث في مدينة المنامة من حركة عمرانية موغلة في التحديث وما تعج به من أحياء جديدة مغرية بالسكنى، الأمر الذي يجعل من الصعب على الكثير من القادرين مقاومة مغريات الانتقال نشداناً للجديد وما يعد به من راحة ورفاهية.

في مدن الخليج والجزيرة العربية اليوم طفرة عمرانية لا يضاهيها إلا ما يجري في الشرق الأقصى، في الصين وهونغ كونغ وكوالالمبور وسنغافورة وغيرها. في دبي والدوحة والمنامة والرياض وجدة ثمة سباق طموح قد يسميه البعض محموماً لحشر الأفق بمبانٍ من الفولاذ والزجاج وبتصاميم عمرانية مبهرة وإضاءة تعشي الأبصار، ويخشى أن تعمي البصائر بسرعتها وتسابقها إلى السماء.

هذه الطفرة تقابلها في معظم تلك المدن العربية حركة مضادة لإحياء القديم ومنح مبانيه المتداعية فرصة للتنفس وسكانَ المدن بعضاً من تاريخ يرونه يتوارى بسرعة هائلة. في مدن مثل الرياض وجدة حركة معاكسة ومضادة تسعى للاحتفاظ بقلب تلك المدن الذي كان نابضاً يوماً، وذلك بعملية تنفس صناعي طموحة وناجحة في بعض الأحيان ومتوسطة النجاح في أخرى. لكن ما يحدث في البحرين، وبالتحديد في بلدة المحرق، وهي في الأساس إحدى جزر البحرين ومن أكثرها عراقة، مختلف كما أسلفت. العنصر البشري الذي يغيب عن عمليات الإحياء الأخرى حاضر هنا وهو ما يسترعي الانتباه. يضاف إلى ذلك أن قيام نشاط ثقافي وإبداعي في قلب تلك الأحياء كالذي اضطلعت به هيئة ثقافة البحرين بقيادة الشيخة مي آل خليفة قبل تركها العمل يضيف إلى الحياة اليومية للسكان بعداً آخر يجعل المنطقة جاذبة للزوار وقادرة من ثم على الاستمرار، لا سيما إن هي أدت إلى نشاط تجاري مصاحب.

عملية الإحياء المشار إليها يعدها بعض المنظرين الغربيين واحدة من سمات مرحلة ما بعد الحداثة. إنها الاستعادة لبعض سمات مرحلة سبقت الحداثة، وذلك على المستوى العمراني. هي مراجعة لسمات الحداثة، المراجعة المنطوية على نقض لبعض تلك السمات. يتضح ذلك في العمارة بصفة خاصة من حيث إن عمارة الستينيات التي انتشرت في العالم العربي كانت حداثية بمقدار خروجها على النمط القديم في البناء: الفيلات والعمارات الإسمنتية المسلحة بأشكالها المثلثة أو الدائرية والمتجهة إلى الخارج بدلاً من الداخل. وكان في تلك الطفرة الحداثية خروج متعمد على المنازل والأبنية التقليدية المتراصة بفنائها الداخلي وعمارتها الحجرية أو الطينية (تماماً كما حدث في الأعمال الأدبية التي سعت حداثتها إلى كسر نمطية الكتابة التقليدية لا سيما في الشعر). في فترة ما بعد الحداثة حدث ارتداد إلى فترة ما قبل الحداثة، ليس الارتداد الكامل أو الاستعادة الشاملة وإنما بالمحاكاة غير المنبتة عن الكثير من العناصر المكتسبة في فترة الحداثة. تفسير المابعدية يكمن في رفض ما قبلها مباشرة، لكن المابعدية تضمنت استعادة لماضٍ أقدم: البناء بما يشبه الطين، الأفنية المطلة على الداخل، الزوايا غير الحادة.

ما نجده أمامنا، ليس في مدن منطقة الجزيرة العربية فحسب وإنما في مدن أخرى من العالم، هو ازدواجية وأحياناً تعددية: الحداثة وما قبلها متجاورة مع ما بعدها، لكن الوضع في المنطقة العربية يختلف عن غيره، لا سيما عن أوروبا أو الغرب عموماً، في أن التباين حاد بل انقطاعي بين تلك المراحل. ففي حين تتعاقب المراحل العمرانية في مدن الغرب ضمن تسلسل يحكمه إطار حضاري متجانس يفضي بعضه إلى بعض، تعيش المدن العربية تناقضاً بين الجديد والقديم، لا سيما مرحلتي الحداثة وما قبلها. ومن هنا تبدو مرحلة ما بعد الحداثة، التي تتسم بالسعي لاستعادة القديم أقرب إلى استعادة الهوية الأساسية التي أربكتها الحداثة وسعت إلى محوها. فعمارة الحداثة أبعد ما تكون عن الانسجام مع مكونات البيئة ومعطيات الثقافة، المكونات والمعطيات التي تتضح في مرحلة الما قبل وتعاود الظهور في مرحلة الما بعد. وفي كل الحالات ما نشاهده هو التحدي الصعب الذي تواجهه الثقافة العربية في مواجهة اختلاف الآخر، أي اضطرارها لمجاراة المستجد من أدوات الحضارة الغربية ومظاهرها ورغبتها في الحفاظ على هوية مستقلة في الآن نفسه. ذلك التحدي هو ما لاحظه أحد أبرز مفكري أوروبا في القرن العشرين. يقول بول ريكير (أو ريكور) Ricoeur، فيلسوف الهرمنيوطيقا الفرنسي المعروف في كتابه «التاريخ والحقيقة»: «ها هي المفارقة: كيف يمكن أن تكون حديثاً وتعود إلى المنابع: كيف تحيي حضارة قديمة غافية وتشارك في حضارة كونية». يقول المفكر الفرنسي ذلك ضمن تأسيه من وضع عالم يتشابه ضمن حضارة عالمية واحدة و«متوسطة القيمة» إلى درجة الإفقار: «إننا نشعر أن هذه الحضارة العالمية الواحدة تفرض في الوقت نفسه لوناً من الاستنزاف أو الإنهاك على حساب الموارد الثقافية التي صنعت الحضارات العظيمة في الماضي».

الحفاظ على تلك الموارد الثقافية هو الهدف الذي تسعى إليه المشاريع المنتشرة هنا وهناك للحفاظ على التراثين المعماري والثقافي، لكن دون الوقوع في فخ الأحلام غير الواقعية، أي مع الوعي بأن مشاريع كتلك تحتاج إلى مقومات اقتصادية ومعرفية تمكنها من الاستمرار، وأن تكون أيضاً مفيدة من منجزات العصر، وهو ما يحدث في البحرين ومناطق أخرى. هي حركة مناهضة للعولمة الثقافية الغربية ومعاكسة لمفهوم التقدم الذي أشاعه عصر التنوير بالقول إن القادم أفضل من السابق بالضرورة، وأن حركة الثقافة إلى الأمام وليست باستعادة الماضي أو التمسك بمعطياته. التوجه ما بعد الحداثي إلى نقض تقدمية الحداثة أو إلى مساءلتها على الأقل يتمظهر في النشاط الإحيائي النوعي وفيما أسميه «الإبداع الماضوي».