بُناة الفجر الذين مَرغوا وجه الإمامة تفاصيل الليلة الأولى للثورة
بعد عدة مُحاولات فَاشلة لاغتياله، توفي الإمام أحمد يحيى حميد الدين في مدينة تعز في 19 سبتمبر 1962، فخلفه ولده محمد البدر ذو الـ33 عامًا. تلقب الأخير بـ(المنصور)، وأعلن بعد يومين من الجامع الكبير بصنعاء خريطة طريق حُكمه، وأنَّه لن يحيد قيد أنمله عن نهج والده، قَائلًا إنَّه سيتبع الطريق المُستقيم؛ الأمر الذي جعل الضباط الأحرار يُعجلون بالتعشي به قبل أنْ يفطر بهم.
أجمع الضباط الأحرار أمرهم على الإطاحة بِحكم الإمامة، ووضعوا لأجل ذلك خُطة مُستعجلة، ومَهدوا لتنفيذها بِفَرض حَالة الطَوارئ في الكلية الحربية، ومَدرسة الأسلحة، وذلك بدءًا من الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم الأربعاء 26 سبتمبر 1962م، وأصدروا توجيهات من القيادة بِتواجد باقي الضباط في المكانين المذكورين، وقاموا بعد مُرور أربع ساعات بِفتح المستودعات، وتوزيع الأسلحة.
تَفرَّد الدكتور محمد سعيد العطار بِذكر رواية مُتصلة، مَفادها أنَّ 40 ضابطا من أصل 400 ضابط، هم مجموع ضباط الجيش اليمني آنداك، كانوا مُنضمين للجنة الثورية، ووضعوا أقرانهم خلال تلك الليلة أمام الأمر والواقع. صحيح أنَّه -أي العطار- لم يُحدد هوية أولئك الأقران، إلا أنَّهم إجمالًا كانوا من الضباط غير المنضوين في تنظيم الضباط الأحرار، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات المدنية، وبعض أبناء المشايخ.
كان من المُقرر أنْ يقوم النقيب حُسين السكري بقتل الإمام محمد البدر فَور خُروجه من اجتماعه مع وزرائه في قصر البشائر، وهو الاجتماع الذي انتهى في تمام الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم، وحَضره العميد عبدالله السلال، والقاضي عبدالرحمن الإرياني، والشيخ محمد علي عثمان، وعلى أنْ تكون طَلقات التصفية إيذانًا بالتحرك، إلا أنَّ تلك الطلقات تَعذر خُروجها، وبذلك فشل السكري في مهمته، وتم القبض عليه واحتجازه حتى الصباح.
جَعل الضباط الأحرار من مبنى الكلية الحربية مَقرًا لعملياتهم العسكرية، وتولى المقدم عبدالله جزيلان والنقيب عبداللطيف ضيف الله والملازم علي عبدالمغني القيادة العامة، وبدأوا تحركهم في تمام الساعة الحادية عشرة، وفي الوقت الذي تولى فيه الملازم ناجي علي الأشول قيادة المجموعة التي تولت حماية مبنى الكلية الحربية (كانت مُغلقة حينها)، توجهت باقي المجموعات للسيطرة على باقي المواقع الاستراتيجية، وكان أكبرها على الإطلاق المجموعة التي توجهت صوب قصر البشائر.
من 12 دبابة هي قوام الدبابات التي كانت تحت تَصرف الثوار، توجهت ست منها للسيطرة على قصر البشائر، وعلى دُفعتين، الدفعة الأولى مُكونة من دبابتي اقتحام بقيادة الملازم عبدالله عبدالسلام صبرة، والملازم محمد الشراعي، والدفعة الثانية مُكونة من أربع دبابات مع طواقمها بقيادة الملازمين عبدالله محسن المؤيد، ويحيى جحاف، وأحمد مطهر زيد، وعبده قائد، وانضمت إليهم بعد بدء الهجوم دبابة سابعة بقيادة الملازم عبدالكريم المنصور، في حين تولى الملازم أحمد الرحومي قيادة عدد من السيارات المدرعة لتأمين ذلك الهجوم.
اتخذت تلك القوات مَواقعها حول قصر البشائر، وتولى الملازم محمد السراجي مُناداة حُراس القصر لاستقطابهم، ولكن دون جدوى، أغلق الأخيرون البوابة، ووضعوا الحواجز المعيقة، وردوا على مَصدر الصوت بالضرب المُكثف، في حين اكتفى المُهاجمون بالضرب المحدود، دون إحراز أي تقدم؛ نَظرًا لانطفاء الكهرباء، ولعدم قيام طلاب مدرسة الأسلحة - كما هو مخطط - على المنازل المحيطة، ولمحدودية المجال الأرضي الذي يَسمح بالتحرك المرن، ولقلة الذخائر الموزعة، حيث لم يكن مع الثوار ليلتها سوى 30 قذيفة، تم توزيعها على أغلب الدبابات، وهي الإشكالية التي كان يُراهن عليها الإمام المُحاصر لحسم الموقف لصالحه.
كانت إشكالية نقص الذخيرة هَم الجميع الشاغل، ولتلافي ذلك القصور، تَواصل الضباط الأحرار مع العميد عبدالله السلال، واختاروه قائدًا لهم، وأرسلوا قبل أن ينبلج فجر تلك الليلة سيارة مُصفحة لإحضاره إلى مقر القيادة، وقد بدأ أولى مَهامه بإصدار أوامره لقيادة مَفرزتي قصر السلاح بفتح بوابة القصر لنقل الذخيرة، وذلك بصفته السابقة (قائد الحرس الملكي)؛ مُستفيدًا من الانطباع السائد ليلتها بأنَّ أنصار الأمير الحسن تَحركوا للإطاحة بحكم الإمام البدر، وهو التصرف الذي أنقذ الموقف، ورجح كفة الثوار.
على الرغم من استشهاد الملازم محمد الشراعي والملازم عبدالرحمن المحبشي والعريف أحمد العزكي حرقًا داخل الدبابة التي كانت تُقلهم، إلا أنَّ الموقف مَيدانيًا تغير لصالح الثوار، ولم تُشرق شمس صباح اليوم التالي حتى حَسمت مدفعية الميدان الرابضة في منطقة خزيمة بقيادة الملازم محمد مطهر زيد الأمر، حيث قامت بنسف واجهة قصر البشائر الجنوبية، واجبرت الإمام المخلوع على المُغادرة.
صحيح أنَّ مَعركة السيطرة على قَصر البشائر كانت هي معركة الثوار الرئيسية، إلا أنَّ هناك في المقابل تحركات أخرى لا تقل أهمية عنها، حيث توجهت قوات بقيادة الملازم صالح الأشول للسيطرة على الإذاعة، مَسنودة بدبابة، ومُدرعة، وهي السيطرة السريعة التي تخللتها مُناوشات محدودة أسفرت عن إصابة الملازم علي أبو لحوم، لتبدأ صنعاء بحلول الساعة السابعة صباحًا بثها الإذاعي، مُعلنة قيام الجمهورية، على وقع نشيد (الله أكبر يا بلادي كبري).
وإلى بئر خيران تم إرسال دبابتين بقيادة الملازم عبدالكريم الحوري، والملازم عبدالكريم المنصور، وقد توجه الأخير - كما سبق أنْ ذكرنا - لتعزيز الهجوم على قصر البشائر. وإلى دار الوصول (القصر الجمهوري) توجهت دبابة بقيادة الملازم علي الحيمي، وقد تعامل الأخير مع سَرية الجيش البراني التي رفضت الاستسلام بعنف، وقبض على أفرادها الذين كان جلهم من قبيلة الأهنوم، وأرسلهم إلى مقر القيادة.
وإلى قصر السلاح تم إرسال دبابتين مع طَواقمها بقيادة الملازم حسين شرف الكبسي، والملازم علي محمد الشامي، ورغم أنَّه أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، لم يُوافق مَسؤول حِراسة القصر الملازم صالح العروسي على فتح المخازن إلا بأوامر من قائد الحرس الملكي العميد السلال، مُخالفًا بذلك ما تم الاتفاق عليه مُسبقًا، ويبدو أنَّ عَدم حسم مَعركة قصر البشائر، وتوارُد الإشاعات بنفاد الذخيرة، واتصال الإمام محمد البدر ببعض أفراد الحراسة، كان سبب تغير مَوقفه المفاجئ، والجزئية الأخيرة تُوضح مدى الإرباك الذي لازم الثوار ليلتها، حيث لم يقوموا بقطع جميع خطوط الاتصالات المُرتبطة بالإمام المُحاصر.
وفي الوقت الذي قام به الثوار بكسب ولاء مفرزتي الكلية الحربية، والإذاعة، وأفراد مدرسة الإشارة، نجحوا أيضًا في تحييد مفرزة جبل نقم، ومفرزة باب اليمن، ومفرزتي قصر السلاح بشقيها النظامي والبراني، ولم يمض من الوقت الكثير حتى رفض أفراد المفرزة الأخيرة، والذين كان جلهم من أبناء قبيلة الأهنوم الانتقال إلى معسكر الجيش الدفاعي، وأتبعوا ذلك بقتل الملازم صالح الرحبي زميلهم في المفرزة الأخرى؛ الأمر جعل الثوار يُسارعون بإخماد ذلك التمرد قبل أنْ يستفحل خطره.
كما سيطر الثوار على مقر فوج البدر، ومقر الجيش النظامي، ومقر الجيش الدفاعي، ومدرسة ضباط الصف، وأتبعوا ذلك بشل حركة القوات المُرابطة في معسكر سلاح المدفعية، القريب من مقر القيادة، والذي تسلل إليه أمير الجيش الدفاعي محمد الضمين، وأمير الجيش المظفر العقيد عبدالقادر أبو طالب، وأجبروا القائدين الإماميين على التوجه إلى جبل نقم.
تولت مجموعة من الثوار بقيادة النقيب حسين الدفعي مُلاحقة أفراد الأسرة الحاكمة والعناصر الموالية لهم، وإلى جانب قيامها بالقبض على أميري الجيش الدفاعي والمظفر في جبل نقم، تمكنت من القبض على الأمير علي بن يحيى، وولده الحسن، وأخيه إسماعيل، وابن أخيه علي بن إبراهيم، وقد تعامل الثوار مع الأخير بلطف تقديرًا لجهود والده، في حين قاموا بإعدام الثلاثة الأوائل، وعدد من أعوانهم.
وإلى جانب الإمام محمد البدر، تمكن الأمير عبدالله بن الحسن ومعه الأمير محمد بن الحسن من الهرب، بعد أنْ قادا صباح اليوم الأول للثورة مُقاومة محدودة في قصر الشكر، وقد كان لثلاثتهم وعدد من أمراء بيت حميد الدين المتواجدين في الخارج دور رئيسي في قيادة معارك إنهاك الجمهورية الوليدة التي سنأتي على تناولها، في حين أعلن قريبهم الأمير القاسم بن الإمام يحيى تأييده للثوار، والجزئية الأخيرة تَفرَّد بذكرها المراسل الحربي أوبلانس.
وهكذا، حقق الثوار بخطة مُستعجلة، وقوات مُتواضعة انتصارهم، ولم يأتِ عَصر يَوم الثورة الأول إلا وصنعاء ومُعظم المدن الرئيسية تحت قبضتهم، حيث فَرضوا خلال وقتٍ قياسي أمرًا واقعًا، ودانت اليمن للعهد الجديد من باب المندب حتى صعدة، وكان لصدى بياناتهم الحماسية عبر أثير إذاعة صنعاء، وقعها الإيجابي في نفوس اليمنيين التواقين للتحرر من الظلم والكهنوت، رغم احتوائها لخبر مقتل الإمام محمد البدر تحت الأنقاض الكاذب.
صحيح أنَّه كان لذلك الخبر عظيم الأثر في تَهاوي أركان بيت الحكم الإمامي، وزيادة التأييد الشعبي، إلا أنَّ نفي عدد من وكالات الأنباء والصحف والإذاعات الأجنبية والعربية لصحته أعطى الإماميين فرصة كبيرة لاستعادة أنفاسهم، وقد تداولت تلك الوسائل ذلك النفي نقلًا عن الجنرال الأمريكي بروس كندي الذي كان أثناء قيام الثورة في صنعاء، وغادرها جوًا عبر إحدى الطائرات التي غيرت مَسارها فجأة من تعز إلى عدن، وفي مطار الأخيرة عقد مُؤتمرًا صحفيًا، حضره عدد من المراسلين.
وكان هذا الجنرال قد قدم إلى اليمن قبل عشر سنوات بِصحبة الأمير عبدالله بن الإمام يحيى بعد أنْ توطدت علاقته به في أمريكا، ولم يمض من الوقت الكثير حتى أعلن في مدينة تعز إسلامه، وغير اسمه إلى (عبدالرحمن)، وساند بعد قيام الثورة الإمام محمد البدر، وعمل مُستشارًا له، وأعطي رتبة لواء، وتوجه بعد عقده المُؤتمر السابق ذكره إلى أوربا مُجندًا عشرات المرتزقة للقتال إلى جانب الإماميين.
وحقيقة الأمر أنَّ الإمام محمد البدر نجا من الموت بأعجوبة، وتمكن بعد مُرور عشر ساعات من بدء الهجوم على قَصره، من الهروب مُتسللًا إلى عددٍ من المنازل المُجاورة، مُتنكرًا بملابس غير ملابسه، مُصطحبًا معه العميد يحيى العروسي وخمسة من عَساكره، وما إنْ حل الظلام، حتى توجه إلى ضُلاع همدان، وأخذ هناك استراحة قصيرة بضيافة الشيخ عاطف المصلى (أعدمه الثوار فيما بعد)، وفي صباح اليوم التالي (الجمعة 28 سبتمبر 1962م) كان وصوله إلى معسكر قشلة عمران، ولم تغرب شمس ذلك اليوم حتى يمم خُطاه صوب مدينة حجة، عَازمًا على تكرار سيناريوا والده في إخماد ثورة فبراير 1948م الدستورية.
بعد مُرور خمسة أيام على هروبه، وبعد أنْ تجمع له حَوالي ألفي مُقاتل، مُعظمهم من رعايا الشيخين علي بن يحيى الصعر، وعلي بن مهدي الأدبعي، قاد الإمام المخلوع هُجومًا عنيفًا على حجة، جَاعلًا من مركز بيت عذاقة مُنطلقًا لهجومه، وقد وصل بالفعل إلى أبواب تلك المدينة 2 أكتوبر 1962، إلا أنَّ ثوارها تحت قيادة النقيب علي سيف الخولاني تصدوا له، وأجبروه على مُواصلة رحلته اليائسة شمالًا.
بعد انتكاسته الثانية في مدينة حجة، توجه الإمام محمد البدر إلى المحابشة، ثم كشر، ثم العبيسة، ثم وشحة، ولم يمكث في الأخيرة سوى ليلة واحدة، واصل رحلته صوب بكيل المير، وتصدت له أثناء مروره في وادى تعشر بالقرب من الملاحيظ قوات جمهورية مُعظم أفرادها من قبيلة حاشد، تحت قيادة الشيخ مجاهد أبو شوارب، ودارت معركة صغيرة استشهد فيها الشيخ محمد حميد نجاد.
وهكذا، وحين لم يجد الإمام المخلوع أرضًا يمنية يتمركز فيها، ولا قوة قبلية تُسانده، وأدرك أنَّ القوات الجمهورية تُلاحقه، حيث خرجت مجموعتين لذات المهمة، واحده من صنعاء، وأخرى من الحديدة، حتى سارع في أواخر ذات الشهر بالتوجه إلى الخوبة، متجاوزًا الحدود اليمنية صوب السعودية، واضعًا رهانه على الخارج، وهو الرهان الخاسر الذي كان له ما بعده.
* مقتطفات من دراسة مُطولة ستنشر قريبًا، والصورة المرفقة لقصاصات صُحف واكبت أحداث تلك الثورة العظيمة.