Image

«مستوطنة الأناركية»... رواية تشيكية تنتقد «التقاليد البالية» للمجتمع الأوروبي

اعتدنا مؤخراً سماع كلمتي «الأناركية» و«الأناركيين» عبر نشرات الأخبار مقترنة بمقاطع فيديو لمجموعات احتجاجية تقاوم الشرطة في الغرب حيث تحتدم المواجهات وتتصاعد قنابل الغاز المسيل للدموع فضلا عن الدخان لتفريق المتظاهرين، كما ترددت الكلمتان بقوة عندم اتهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مجموعات الأناركيين بالسعي لـ«تخريب البلاد».

وتتكون «الأناركية»، بحسب الأصول اليونانية للكلمة، من مقطعين هما «آن» و«آركي» اللذين يمكن ترجمتهما بـ«بدون حكام». ويصف «رودولف روكير» (1873 - 1958) الأناركية بأنها «اتجاه واضح في التطور التاريخي للجنس البشري، يناقض الوصاية الفكرية لجميع المؤسسات الدينية والحكومية، ويسعى إلى الكشف عن جميع القوى الفردية والاجتماعية في الحياة»، فيما يؤكد عالم البيئة والمنظر موراي بوكتشين أنه يمكن للمرء أن يعتبر نفسه أناركياً إذا آمن بأن «المجتمع يمكن أن يدار بدون الدولة».

وفي روايته الجديدة «مستوطنة الأناركية» يقدم الكاتب التشيكي باتريك أورشادنيك مفهوما مختلفا لهذا المصطلح الذي يصبح مرادفا هنا لفكرة «المجتمع الحر العادل» الذي تهفو روح البطل إليه هربا من التقاليد البالية والنفاق والاستعلاء الطبقي والهوس الشديد بالمظاهر على حساب الجوهر الذي كان يموج به المجتمع الأوروبي في منتصف القرن التاسع عشر حيث تجري أحداث العمل.

ويرسم «أورشادنيك» في روايته التي صدرت مؤخراً عن دار «العربي «بالقاهرة، ترجمة عمرو شطوري، صورة قاسية لملامح المجتمع الأوروبي نتيجة ما كان يعتري أوروبا آنذاك من انفصام للفكر وتعدد الآراء والخروج عن كل ما هو مألوف. يتجسد ذلك عبر مجموعة رسائل من «أناركي» إيطالي يرسلها إلى عشيقته السابقة التي تحمل لقبا في مجتمع النبلاء بعد أن قرر أن يرحل إلى البرازيل ويرفض أي شكل للتطورات التي يتعرض لها المجتمع الأوروبي في القرن التاسع عشر، من عصر التنوير إلى الإصلاح الاجتماعي إلى الثورة الشيوعية.

وقد ساهم الراوي في نشر الإعلان عن الهجرة لتأسيس مستوطنة حرة في البرازيل. ومن هنا تبدأ رحلته إلى مستوطنة الأحلام تلك، لكن بالعودة إلى عام 1855 يتذكر كل ما مر به من أحداث كئيبة ومرحة على متن السفينة وكيف انخرط مع مجموعة كبيرة من الجنسيات المختلفة محاولين إيجاد وسيلة للتواصل ولإرساء قواعد مجتمعهم الجديد قبل وبعد الوصول. اعتمدت الرواية على تقنية الرسائل في تنويع أنساق السرد وتنميتها في سياق الفكرة أو الصراع، حيث النبرة الهادئة المفعمة بالسخرية وبعض التوتر الذي يلوح تحت السطح.

يعد باتريك أورشادنيك أحد أهم الكتاب المعاصرين في الوقت الحالي بالتشيك، وهو كاتب ومترجم ولد في براغ عام 1957، درس التمثيل والإخراج في مدرسة الفنون الشعبية. وفي عام 1985 هاجر إلى فرنسا حيث ألف العديد من الكتب تتنوع بين الأدب والشعر والمقالات مثل «أوروبيانا - مختصر القرن العشرين» الصادر عام 2001 والذي ترجمته دار «العربي» ورواية «حفظت القضية» كما صدرت روايته هذه تحت عنوان «اللحظة المناسبة» في عام 2005. ترجم العديد من الأعمال الأدبية لأهم كتاب فرنسا مثل صمويل بيكيت وفرانيوا رابليه، وحصل على العديد من الجوائز الأدبية على كتاباته مثل جائزة صندوق الأدب التشيكي وجائزة الدولة التشيكية للآداب وجائزة راديو التشيك كما حصل على جائزة الولايات المتحدة للترجمة عن كتابه «أوروبيانا».

ومن أجواء الرواية، نقرأ: «سيدتي رغم مدى قوة رفضي للخضوع لنزواتك طوال سنوات عدة، فإنني لم أعد أجد في نفسي الشجاعة للاستمرار في المقاومة ولم يعد لدي خيار سوى الاستسلام، حتى لو فعلت ذلك على حساب سمعتي فإرضاؤك يعني الاعتراف بحبي لك، ذلك الانفجار المؤقت، التعتيم اللاإرادي للحواس، مما يجعل كل ما أعلنته وأعلنه أقل إقناعا، ورغم معرفتك بذلك، تسألينني بأنانيتك أن أظهر لك إخلاصاً لا أستطيع أن أظهره لأحد غيرك. لأنني إذا قاومت في الحياة مطالبك المتعسفة لكنت حينها أقاوم الحرية والعفوية ولواجهت السخرية والإنسانية المتدنية في هدوء وعزيمة مستمرين، فقد خسرت معركتي مع الحب والأكثر من ذلك أن حبي تجسد بك، بامرأة لا تستحق مشاعري الصادقة.

ما زلت حتى اليوم أحبك حتى عندما لا أجد فيك شيئا يستحق اهتمامي، عندما أدهش من كوني وقعت في حبك على الإطلاق، مع أنه حتى اليوم تأسرني كلمة من فمك وتجعلني أجثو على ركبتي وأعود إلى زمن عدم النضج وتلمس الطريق في مرحلة الشباب إلى الماضي وما قبل الماضي، إلى مرحلة التلميذ الصغير الذي ينفذ الأوامر والتعليمات دون أن يفهمها، لكن هذا التلميذ قاوم في النهاية وقرر أنه لن يخضع إلا لما هو مفيد وجيد بينما الرجل المسن يلتقط قلما ويسارع لإرضاء غرورك!».