Image

استمرار شحن المواد الغذائية من أوكرانيا انتصار للجميع

عندما قصفت روسيا ميناء مدينة أوديسا الأوكرانية الأسبوع الماضي، لم يكن ذلك إيذاناً ببداية ميمونة للاتفاقية الجديدة المتعلقة بتصدير الحبوب. وإذا اعتقد أي شخص أن هذا الاتفاق بين موسكو وكييف سيكون له أي تأثير إيجابي على الحرب الطاحنة الدائرة في أماكن أخرى في أوكرانيا، فإن الجيش الروسي بالتأكيد دمر هذا التفكير القائم على التمني. ووجه الغرب انتقاداً قوياً ضد روسيا لقصفها مواقع مدنية في أوكرانيا، وقال منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل في تغريدة له إن «قصف روسيا لأي هدف له علاقة بتصدير الحبوب يظهر مدى استهتار روسيا بالقانون الدولي»

وعلى الرغم من القصف الروسي من المتوقع استمرار اتفاق تصدير الحبوب إذ إن روسيا لم تنتهك الاتفاق عملياً. وتعهد الكرملين تجنب قصف السفن التي تحمل المواد الغذائية إلى الدول الأخرى.

جميع الأطراف مستفيدة من الاتفاق

والأمر الأكثر أهمية أن هذا الاتفاق يأتي لمصلحة الجميع إذ إن أوكرانيا تبيع مخزونها من الحبوب والمواد الغذائية البالغ 22 مليون طن وتفرغ مستودعاتها من أجل محاصيل العام الجاري، وروسيا تخفف ضغوط العقوبات على تصدير المواد الزراعية. وتركيا ستكسب المال عن طريق تسهيل عملية التصدير في البحر. وتستفيد روسيا من تحسين سمعة أسطولها البحري التي تضررت بسبب محاصرته الموانئ الأوكرانية لمنع تصدير المواد الغذائية إلى العالم. وتواجه روسيا تهماً تفيد بأنها تستخدم المواد الغذائية سلاحاً عن طريق اتهام الغرب بالمسؤولية عن الأزمة الغذائية العالمية نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا، ولهذا قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بجولة في إفريقيا للترويج لآراء الكرملين.

وسيستغرق تنفيذ اتفاقية تصدير الحبوب التي لعبت فيها تركيا دور الوسيط بعض الوقت إلى حين تنفيذها، إذ سيتم تركيب نظام مراقبة يهدف إلى التأكد من أن السفن الأوكرانية لا تحمل أية أسلحة بل مواد غذائية فقط، في الذهاب والإياب. وثمة ألغام بحرية قريبة من ميناء أوديسا لابد من تجنبها أو إزالتها، وبناء عليه يتعين على دول الشرق الأوسط وإفريقيا الانتظار قبل وصول الحبوب الأوكرانية والروسية التي يعتمدون عليها منذ زمن طويل، وحتى بعد استمرار التصدير فمن غير المعروف تأثير كل ذلك على أسعار المواد الغذائية التي ارتفعت بصورة كبيرة في مارس الماضي أي بعد الحرب في أوكرانيا.

ارتفاع مذهل للأسعار

ودفع ارتفاع الأسعار المذهل الناس إلى الخروج إلى الشوارع في شتى أنحاء العالم، من البيرو إلى فلسطين وإندونيسيا. وسقطت حكومة سريلانكا التي حكمت البلاد لعقدين من الزمن نتيجة الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة في البلاد. وثمة 18 مليون شخص في دول الساحل الإفريقي يواجهون خطر الجوع نتيجة انخفاض المحاصيل لديهم، في حين يواجه نحو 13 مليوناً جفافاً شديداً في القرن الإفريقي. وبالطبع فقد كان برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة يقدم العون لهم، ولكن البرنامج يشتري نحو نصف احتياجاته من القمح من أوكرانيا، ولكن من المسؤول عن محنة هؤلاء؟

في الواقع بدأ ارتفاع أسعار المواد الغذائية منذ بدء انتشار جائحة «كورونا»، وأسهمت عوامل أخرى مثل ارتفاع أسعار السماد، وأسعار الطاقة، وانخفاض حجم المحاصيل نتيجة مشكلات تتعلق بتغير المناخ، وثمة عامل آخر غير معروف كثيراً تمثل في المضاربة المالية. وبعد ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الفترة ما بين 2007 و2008 نشر معهد أبحاث سياسة الغذاء الدولية تحليلاً يمكن أن يثبت بأنه ينذر بالكثير.

ويفيد هذا التحليل بأن تدفق رؤوس الأموال المضاربة من المستثمرين الماليين إلى أسواق السلع الزراعية كان حاداً، كما تزايد عدد العقود المتداولة مستقبلاً مع الزمن. وفي الفترة ما بين مايو 2007 ومايو 2008 ازداد حجم العقود المتداولة والمتعلقة بالحبوب على نحو كبير. ويمكن أن تؤدي المضاربة المفرطة في سوق السلع الآجلة، من حيث المبدأ، إلى رفع الأسعار من خلال فرص «المراجحة» (أي بيع السلعة في مكانين كل منها بسعر مختلف) حيث يكون هذا الارتفاع غير مبرر من قبل قانون العرض والطلب.

تعزيز مكاسب بوتين

ويثبت الهبوط الأخير في الأسعار، بعد الارتفاع الذي حصل في مارس الماضي، أن «المضاربة المفرطة» لعبت دوراً فعلاً مهماً. وحتى الآن لم تخرج السلع من أوكرانيا أو روسيا، ولذلك فإن الهبوط له علاقة بالتوقعات التي تفيد بأن الركود المقبل سيقلل من الطلب، وبالتالي فإن قانون العرض والطلب لا يلعب دوراً مهماً هنا.

وكان بوتين يقصد منذ بداية الحرب تخفيض قدرة أوكرانيا على التجارة بالسلع الغذائية، ويقول المقربون منه إنه يعتقد أنه يستطيع الصمود أكثر من الغرب في هذه الحرب، حيث سيضطر الغرب في النهاية إلى الرضوخ للرأي العام لديه بعد أشهر من ارتفاع أسعار الطاقة. ويعتقد الاقتصادي الروسي سيرغي غورييف، وهو رئيس سابق في البنك الأوروبي من أجل إعادة البناء والتنمية، أن بوتين كان «يقصد رفع أسعار المواد الغذائية في الشرق الأوسط، لأن ذلك سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار وزيادة تدفق اللاجئين»، واعترف الرئيس الروسي السابق ديميتري ميدفيدف أن روسيا كانت تستخدم المواد الغذائية سلاحاً عندما كتب في أبريل الماضي يقول «تعتمد العديد من الدول على إمداداتنا من أجل أمنها الغذائي، واتضح أن موادنا الغذائية هي بمثابة سلاح صامت، ولكن فعال، ويبدو أن سلاح الغذاء لم يكن من اختراع روسيا ولكن استخدمته دول أخرى قبلها».

الحرب ستنتهي دون نصر مؤزر لأي طرف

ولهذا فإن بوتين بحاجة إلى استئناف بيع الحبوب، وإنقاذ سمعة روسيا كأحد كبار الموردين للمواد الغذائية، وتعزيز أي مكاسب يمكن الحصول عليها من المناطق التي سيطر عليها الجيش الروسي في أوكرانيا.

وبالتأكيد فإن هذه الحرب ستنتهي دون تحقيق نصر مؤزر لأي طرف، إذ أن روسيا لن تستطيع احتلال كل أوكرانيا، وأوكرانيا لن تستطيع حرمان روسيا من جميع ما حققته من مكاسب، ولكنها ستنتهي على حال يمكن للطرفين أن يعلنا انتصارهما. وفي هذا الوقت، ومع استمرار اشتعال فتيل الحرب في واحدة من مناطق العالم الرئيسة لتأمين المواد الغذائية للعالم، فإن عملية شحن المواد الغذائية إلى المناطق الفقيرة والجائعة تعتبر نصراً للجميع.

جون فيفر مدير «فورين بوليسي إن فوكس»