تقسيم بايدن للعالم إلى ديمقراطيين ومستبدّين خطأ كبير
أواخر فبراير الماضي استيقظ العالم على حرب روسيا، وهي أكبر دولة أوروبية من حيث المساحة وعدد السكان والقدرات العسكرية، ضد جارتها الأصغر والأضعف أوكرانيا. في الوقت نفسه أبدت الصين دعمها لحرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل إنها بدأت تتحرك بشكل عدواني، حيث زادت ضغطها العسكري على تايوان، وعسكرة بحر الصين الجنوبي، ودخلت في صراعات بحرية مع الدول المجاورة.
كل هذا دفع العديد من دول العالم إلى إعادة حساباتها الجيوسياسية والأمنية بهدف تعزيز أمنها، حتى لا تجد نفسها يوماً ما فريسة سهلة لدولة أقوى وأكبر. هذه الأوضاع العالمية بمثابة فرصة أمام إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للتفكير في تحركاتها السياسية الشجاعة لتعزيز الأمن الأميركي، بحسب مدير مركز الحرية والازدهار التابع للمجلس الأطلسي، دان نجريا.
وفي تحليل نشرته مجلة «ناشيونال إنترست»، استعرض نجريا الذي عمل ممثلاً خاصاً لوزارة الخارجية الأميركية للشؤون التجارية والأعمال، وعضواً في مكتب التخطيط السياسي بالوزارة، أبرز التحولات التي أثارتها الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وصولاً إلى موقف الولايات المتحدة، وضرورة إعادة النظر في العديد من سياساتها، خصوصاً تصنيف الرئيس الأميركي، جو بايدن، دول العالم إلى دول ديمقراطية وأخرى ديكتاتورية مستبدة، وقوله إن العالم يشهد صراعاً بين الديمقراطية والديكتاتورية.
التغيير عبر التجارة
وعن ألمانيا، صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، يقول نجريا إن ألمانيا تبنت خلال سنوات حكم المستشارة السابقة أنغيلا ميركل، التي بلغت 16عاماً، وما قبلها، مبدأ «التغيير عبر التجارة» للتعامل مع روسيا، على أمل أن تؤدي العلاقات الاقتصادية مع روسيا إلى تبنيها سياسات داخلية وخارجية رشيدة. والسياسة نفسها تقريباً تبنتها ألمانيا في التعامل مع الصين. هذه السياسة حققت مكاسب كبيرة للشركات الألمانية. كما أن ألمانيا خلال العقود الأخيرة قلصت إنفاقها العسكري إلى نحو 1% من إجمالي الناتج المحلي، وخفضت حجم الجيش، فانخفض عدد الدبابات مثلاً من 5000 دبابة أثناء الحرب الباردة إلى 266 دبابة عام 2022.
لكن الحرب الروسية في أوكرانيا شكّلت نقطة تحول كبرى بالنسبة للألمان الذين واجهوا حقيقة أن دولة أوروبية لا تبعد عن بلادهم أكثر من ساعتين بالطائرة تقاتل بضراوة من أجل وجودها السيادي ضد جيش يحاربها ويقتل المدنيين ويدمر المدن.
وبسرعة تبنت الحكومة الائتلافية مدعومة بتأييد شعبي واسع تغييرات جذرية في السياسات الدفاعية الألمانية، بما في ذلك رصد نحو 100 مليار يورو إضافية للإنفاق العسكري. وبدأ سياسيون ألمان يتحدثون عن ضرورة تولي ألمانيا دوراً قيادياً في أوروبا على مختلف الأصعدة، بما في ذلك الصعيد العسكري، وهو ما يحدث للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.
أما حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي كان حائط الصد الغربي ضد الاتحاد السوفيتي السابق، والذي قال عنه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، منذ ثلاث سنوات فقط، إنه في حالة «موت سريري»، فقد تلقى دفعة قوية من الحرب الروسية الأخيرة. وعلى مدى عشرات السنين يشكو الأميركيون ضعف الإنفاق العسكري لحلفائهم الأوروبيين الأعضاء في الحلف. وفي عام 2014 كانت ثلاث دول فقط من بين 28 دولة عضواً في الحلف تلتزم بتخصيص 2% من إجمالي ناتجها المحلي للإنفاق العسكري، كما يقضي ميثاق الحلف. لكن العدد ارتفع اليوم إلى تسع دول، في حين تعتزم دول أعضاء أخرى للوصول إلى هذه النسبة بحلول 2024. وفي قمة الحلف الأخيرة بالعاصمة الإسبانية مدريد تحدثت دول أعضاء عن اعتزامها تخصيص 2.5% أو 3% من ناتجها المحلي للأغراض الدفاعية.
وهناك تغيير كبير آخر بالنسبة لحلف «الناتو» رحبت به الولايات المتحدة، وهو اعتبار الصين تهديداً استراتيجياً يجب أن يتعامل معه الحلف.
وفي الشرق الأقصى، حيث توجد اليابان صاحبة الدستور السلمي الذي يفرض قيوداً صارمة على القدرات العسكرية للبلاد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، دفع تزايد التهديدات العسكرية من جانب روسيا والصين وكوريا الشمالية إلى تحولات واضحة في الرأي العام الياباني والنخبة السياسية لتأييد تعزيز القدرات العسكرية للبلاد. وفي عام 2015 وافق البرلمان الياباني على تعديل دستوري يسمح لليابان بنشر قوات عسكرية في الخارج في مهام «الدفاع الجماعي عن النفس» مع الدول الحليفة.
ومع تزايد «التحركات العدوانية» من جانب روسيا والصين، أعلنت الحكومة اليابانية في أبريل الماضي مضاعفة الإنفاق العسكري ليصل إلى 2% من إجمالي الناتج المحلي، أي 106 مليارات دولار، وهي ثالث أكبر ميزانية عسكرية على مستوى العالم.
خطوات جيدة
ويرى نجريا أن إدارة بايدن اتخذت العديد من الخطوات الجيدة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث قدمت دعماً عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً قوياً لأوكرانيا، وقادت تحركات «الناتو» لتقديم الدعم لأوكرانيا، ونسقت حملة عقوبات دولية ضد روسيا. كما وجهت تحذيراً قوياً إلى الصين، حتى لا تنتهك العقوبات الدولية المفروضة على روسيا أو تقدم دعماً عسكرياً لها.
لكن إدارة بايدن تستطيع القيام بأكثر من هذا، فهي تستطيع استغلال الأزمة، كما فعل العديد من دول العالم، لكي تطبق تغييرات شجاعة من أجل تعزيز الأمن الأميركي.
ويرى نجريا أنه يمكن إعادة النظر في ما يسمى «مبدأ بايدن» الذي أطلقه الرئيس الأميركي لتعريف أزمة العالم، وهي الصراع بين الديمقراطية والديكتاتورية. فالحرب الأوكرانية أثبتت أن هذا المبدأ غير مقنع. «وأن ما يهدد الأمن الأميركي، وربما الأمن العالمي، ليس الديكتاتورية والاستبداد بشكل عام، وإنما التهديد يأتي من الصين وروسيا بشكل خاص، ليس فقط لأنهما دولتان مستبدتان وإنما لأنهما دولتان مستبدتان قويتان وعدوانيتان، وتوسعيتان، تهددان المصالح الأميركية باستخدام قدراتهما العسكرية والاقتصادية وممارساتهما التجارية غير العادلة، وتهديد السلام في العالم».
ويشير نجريا في تحليله إلى أن إدارة بايدن انتقدت خلال السنوات الماضية عدداً من الدول الحليفة والصديقة، مثل بولندا وتركيا، والهند وتايلاند، وفيتنام وغيرها، على خلفية قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، مؤكداً أن هذا الموقف خطأ من جانب بايدن، لأن هذه الدول مهمة من الناحية الاستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة في مواجهتها من الصين وروسيا.
ويدعو المحلل الاستراتيجي والدبلوماسي الأميركي السابق إلى استدعاء مفهوم العالم الحر، الذي استخدمته الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة، مع إعادة تعريفه ليشمل كل دول العالم التي ترغب في استمرار استقلالها عن السيطرة الصينية أو الروسية، سواء كانت تلك الدول ديمقراطية أو ديكتاتورية. في الوقت نفسه يمكن للولايات المتحدة مواصلة تشجيع الديمقراطية، لكن من خلال الدبلوماسية الهادئة.