الفكر الاستبدادي والمعاناة البشرية (2)

10:00 2022/06/20

نظراٌ لأهمية هذا الموضوع وتشعباته وحتى نعطيه حقه في التوضيح لم نجد بد من كتابة الجزء الثاني منه والذي نضعه بين أيديكم وهو كالتالي:
إن الفكر الاستبدادي والتسلطي عندما يسيطر على تفكير الإنسان يتحول إلى منهج حياة، ولا يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل إن الإنسان وتحت تأثير هذا الفكر لا يتوقف عن صناعة الكثير من المبررات لأعماله وتصرفاته الاستبدادية والعدوانية سواء أمام نفسه أو أمام الآخرين. فقد يرى المستبد في قتل الآخرين وسفك دمائهم والاعتداء عليهم ونهب أموالهم وانتهاك حقوقهم وحرياتهم جهاداً دينياً مقدساً، ليمارس استبداده وعدوانيته باسم الله. وهذا ما يعرف بالاستبداد الديني، وهو أبشع أنواع الاستبداد على الإطلاق، لأن المستبد الديني يقوم بتلك الأفعال العدوانية ويظن من عند نفسه أنه ينال بذلك رضى الله وينفذ أوامره وتوجيهاته، رغم تعارض ما يقوم به مع الشرع الإلهي الوارد في الكتب المقدسة، وأن ما يقوم به ليس أكثر من أراء واجتهادات وتفسيرات بشرية، ناتجة عن أشخاص واقعين تحت سيطرة الفكر الاستبدادي، لينفذوه ويمارسوه باسم الدين، والدين منهم براء. وبهذه الطريقة الملتوية حولوا الاستبداد السلبي والعدواني والإرهابي إلى استبداد ديني مقدس.
لأن الأديان السماوية، التي أنزلها الله تعالى لهداية وخير وصلاح وسعادة البشرية، من غير الممكن أن تصبح مناهج ووسائل وأدوات استبداد وعدوان وبطش وتطرف وتشدد وارهاب. والحقيقة أن الفكر الاستبدادي البشري هو من قام بلي أعناق التشريعات والأفكار السماوية السامية والعظيمة عن طريق تفسيرها وتأويلها وتحويرها بما يتناسب مع منهج وفكر أتباعه وأنصاره، وليجعل منها وسيلة لممارسة عدوانيتهم واستبدادهم ضد الآخرين. وهذه المرة ليس باسمهم ولا من عند أنفسهم بل باسم الدين. ولن أبالغ إذا قلت بأن البشرية لم تعانِ ولم تتجرع المآسي والكوارث من أي استبداد بقدر معاناتها من الاستبداد الديني البشري المتطرف والمتشدد ، والذي أصبح يعرف بالاستبداد المقدس ( الحروب الصليبية أنموذجاً). ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، بل إن أتباع الديانة الواحدة لم يترددوا في ممارسة الاستبداد الديني فيما بينهم بإسم الاستبداد المذهبي والطائفي.
وكذلك الحال بالنسبة للاستبداد الأسري والمجتمعي، فلم يتردد الذكر الأب والأخ والزوج من ممارسة الاستبداد والظلم والقمع ضد الأنثى التي أصبحت مع مرور الأيام الضحية الأكثر عرضة للاستبداد الأسري والمجتمعي، ليصل الحال في بعض المجتمعات الاستبدادية إلى دفن البنات أحياء، لتدفع الأنثى ثمن طيش ونزوات وغرائز وعنجهية وهمجية الكثير من الذكور، خصوصاً القائمين منهم على الفكر الاستبدادي ومؤيديه وأتباعه. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، فقد أفقد الفكر الاستبدادي المجتمعي والسياسي الأنثى إنسانيتها وحرمها من حقوقها وحرياتها الانسانية، لتصبح عبارة عن سبية وغنيمة حرب تباع وتشترى في سوق النخاسة. ولن إبالغ إذا قلت إن الأنثى كانت وما تزال أكبر ضحايا الاستبداد بكل أنواعه، حتى أنها لم تسلم من الاستبداد الديني الاجتهادي البشري الذي لم يتردد في انتقاص شأنها والالتفاف على حقوقها وحرياتها الانسانية التي كفلتها لها الشرائع السماوية. كما أن الأنثى لم تتردد من ممارسة الاستبداد بكل صوره ضد بنات جنسها وضد من هم أضعف منها أو تحت رحمتها. فالفكر الاستبدادي وللأسف الشديد هو من حول حياة البشر إلى جحيم لا يطاق، وإلى غابة متوحشة القوي فيها يعتدي على من هو أضعف منه ليستبد به ويستعبده ويخضعه لمشيئته. 
والفكر الاستبدادي هو نتاج تعاظم نزعة الطمع والجشع والهووس العشق الجنوني للمناصب والأموال والثروات داخل النفس البشرية  ففي سبيل الحصول على المنصب والجاه والسلطان لا يتردد صاحب هذا الفكر من ارتكاب أبشع الجرائم في حق الآخرين، ومن انتهاك حقوقهم ومصادرة حرياتهم ونهب أموالهم، وليس هناك من حل لذلك سوى إقناع النفس بالابتعاد عن اللهث بعد المناصب والجاه والسلطان، ولا يصل لهذه القناعات إلا الأنبياء والرسل والحكماء والعقلاء والصالحين. فعشق السلطة واللهث بعدها وسفك الدماء من أجلها ليست من صفاتهم لا من قريب ولا من بعيد. فهم قد طلقوا السلطان والمناصب وكل إغراءت الحياة. وكم ذلك التناقض فيمن يدعون الزهد والإيمان والحكمة وهم لا يتورعون عن القتل والبطش وخوض الحروب وإزهاق الأنفس البريئة في سبيل معشوقتهم المفضلة وهي السلطة، تحت مبررات قد تكون دينية أو سياسية أو عنصرية أو مناطقية أو طائفية. والحديث حول هذا الموضوع لا يمكن حصره في مقال أو مقالين بل في كتب ومجلدات، ولكل مجتهدٍ نصيب.