Image

كاترين هوغارت وتشارلز ديكنز... الزواج المطعون بالخيانات وفائض الشهرة و«غزارة» الإنجاب

إذا كان ثمة من توصيف ملائم يمكن أن يختزل طفولة الكاتب البريطاني الشهير تشارلز ديكنز، فلن يعثر بالتأكيد على ما هو أكثر ملاءمة من كونها مزيجاً متفاوت المقادير من الطمأنينة والقلق، من الحرمان المادي والغنى المعرفي، من الشعور بالمهانة وكبرياء النفس. وبما أن الكتابة هي «ذكريات تثمر في الظلام»، كما يقول أحد المفكرين، فإن معظم ما كتبه ديكنز كان في حقيقته الأعمق انعكاساً لما مر به في حقبتي الطفولة والصبا من مكابدات ومحن وتجارب. على أن ذلك الانعكاس لم يلبس بالضرورة لبوس التراجيديا والكتابة السوداء، بل كان ينزع في أحيان كثيرة باتجاه الكوميديا والتصوير الساخر للشخصيات، وأحياناً أخرى نحو الترسيم الدقيق والحاذق للشخصيات المأزومة، كما للتحولات الدراماتيكية المتسارعة التي شهدها تاريخ بلاده السياسي والاجتماعي والثقافي، في تلك الحقبة المفصلية والحاسمة من القرن التاسع عشر. وفي محاولة جادة للإجابة عن السبب الذي يدفع الملايين من البشر، لقراءة أعمال ديكنز، يرى الناقد الإنجليزي جون فاريس، أن كتابات ديكنز قد تمكنت من الغوص داخل النفس البشرية، والوصول إلى أبعد نقطة فيها. كما رصدت هذه الكتابات أشياء لا نعرفها عن أنفسنا لأنها «تخبرنا عن سبب ما نحن عليه، وتكشفنا أمام أنفسنا دون زخرفة».

ومع أن حياة ديكنز العاطفية لم تكن بدورها أقل إثارة وغرابة واكتظاظاً بالمفارقات، إلا أن التقاليد الصارمة للعصر الفيكتوري لم تتح لصاحب «قصة مدينتين» أن يكشف بالشكل الكافي النقاب عن وحول نفسه ونزوعه الشهواني العارم، أو أن يتجاوز في كتاباته التابوهات الصارمة المفروضة على شؤون الجسد والنوازع الجنسية، وهي معضلة لم تقتصر مواجهتها على ديكنز وحده، بل طالت في الوقت ذاته ثلة من كتاب عصره وكاتباته، مثل جين أوستن وجورج إليوت وتوماس هاردي وغيرهم. لا بل إن ديكنز الذي لجأ كغيره من الروائيين إلى الاختباء خلف أبطال وبطلات رواياته، حيث نجد ظلالاً لسيرته الشخصية ولنساء حياته الواقعيات، في معظم ما تركه من أعمال، لم يقدم إلا القليل من وسخ الواقع المزري الذي عاشه وعاين عيوبه وقذاراته عن كثب. لكن ذلك لم يمنع قارئيه وكتاب سيرته، مثل إدغار جونسون وفيلدنغ وتوماس رايت وجاك لندسي، من تقديم صور وأجزاء من حياته، يمكن أن تعرفنا بوضوح إلى شخصيته القلقة، كما إلى علاقته المضطربة بزوجته كاترين، وبنساء حياته الأخريات. أما الناقد البريطاني جورج ونغ، فقد عمل في كتابه عن ديكنز، على استقراء وقائع حياته من أعماله السردية، وعلى ترسيم العلاقة بين الواقعي والمتخيل في شخصيات هذه الأعمال.

وقد لا يحتاج المرء إلى أكثر من الاطلاع على نشأة ديكنز، المولود في بورتسموث عام 1812، وعلى أنماط الوجوه التي شكلت مسرح طفولته، لكي يدرك السبب العميق لتبرمه بالواقع، كما لعلاقته الصعبة بزوجته وبالنساء على نحو عام. فلقد اتسمت شخصية أبيه، الذي كان يعمل موظفاً في إدارة المعاشات البحرية، بالتهور وتبديد الأموال اللذين أوديا به إلى السجن، فيما اتسمت أمه من جهتها بالغباء وسوء التصرف والتقدير. وفي حين كان جده وجدته يعملان في خدمة المنازل والأسر الثرية، كان أحد أعمامه مضطراً إلى مغادرة البلاد، بعد أن لاحقته هو الآخر تهم مختلفة بالسرقة والاختلاس. وما ضاعف من آلام ديكنز الطفل في تلك الحقبة، هو إجبار أبيه له على العمل في محل لصباغة الأحذية، وفي مبنى متصدع ومليء بالجرذان، فيما لم يكن يتجاوز الثانية عشرة من عمره. أما الأمر الأكثر إيلاماً بالنسبة له، فقد تمثل في انحياز أمه المخزي لأبيه، من أجل إكراهه على العمل. وقد استحضر ديكنز تلك المرحلة البائسة من حياته في روايته الشهيرة «ديفيد كوبرفيلد»، حيث اضطر ديفيد إلى العمل في ورشة بالغة القذارة «تديرها الفئران»، وبصحبة ثلة من السفلة المنحرفين، الأمر الذي دفعه إلى القول «ليست هناك كلمات تستطيع أن تعبر بصدق عن ذلك الألم الخفي والمروع الذي انتابني وأنا أغرق في صحبة أناس كهؤلاء».

على أن ذلك الوضع الخانق والمأساوي لم يستمر طويلاً لحسن الحظ، إذ عمد والد ديكنز إلى إلحاقه بعد ذلك بأكاديمية ويلينغتون، ليقضي في رحابها عامين اثنين، تذوق خلالهما طعم السعادة وقرأ الكثير من الكتب، التي كان يضطر إلى بيعها حين يعوزه المال. كما عمل لاحقاً في مكتب للمحاماة، ومن ثم محققاً صحافياً لسنوات سبع. وقبل أن يشرع في كتابة روايتيه الأوليين «بيكويك» و«أوليفر تويست»، كان قد اكتسب الكثير من المهارة الأسلوبية التي لم تنضج على نار المراس المعرفي واللغوي فحسب، بل بفعل ما راكمه من تجارب وخبرات حياتية شديدة القسوة والثراء والتنوع.

 

أما على المستوى العاطفي، فلم تكن علاقات ديكنز بالنساء اللواتي عرفهن وردية تماماً، بل داخلها على الدوام ذلك العطب الداخلي الناجم عن ظمأ الكاتب المفرط إلى الحنان والحدب الأموميين، وهو الذي لم ينل منهما في طفوته المبكرة والمتأخرة سوى النزر القليل. وقد شاءت الظروف أن يخوض الفتى المراهق مغامرته الأولى مع ماريا بيدنيل، وهي الابنة الصغرى لأحد مديري البنوك، والفتاة البدينة ذات المزاج المتقلب التي شغف بها ديكنز لأربعة أعوام من الحب الموزع بين الشهوة العارمة والصدود القاسي. ومع ذلك فإن الكاتب المخذول لم يتوان عن الإقرار فيما بعد بأن معاناته المروعة مع ماريا، التي جرعته مرارة الصدود والحرمان العاطفي والجسدي قبل أن تعمد إلى هجرانه، لم تكن أقل مرارة من معاناته في ورشة الصباغة، وأن الدرس الأبلغ الذي استخلصه من تلك التجربة هو التكتم على مشاعره، والشح في إظهارها حتى أمام أطفاله. والغريب في الأمر أن ماريا نفسها ستكتب لديكنز بعد عشرين عاماً من الفراق وبعد إنجاب كل منهما للعديد من الأبناء، رسالة شبه اعتذارية تعرض عليه فيها استعادة العلاقة ومنح نفسيهما فرصة أخرى لامتحان مشاعرهما القديمة. لكن اندفاعة الكاتب العارمة للثأر من ماضيه، ما لبث أن بددها عند اللقاء، واقع حال المرأة المفرطة في البدانة، التي تطفح بالغباء الشرير، وفق تعبير جورج ونغ في كتابه عن ديكنز.

كان ديكنز في الثالثة والعشرين من عمره، حين التقى عام 1836، وفي عيد ميلاده بالذات، بكاترين بوغارت، ابنة رئيس تحرير المجلة التي يعمل بها، والتي كانت تملك مواهب عدة بينها الكتابة والطهي والتمثيل. وبما أن كلاً منهما قد راق للآخر فقد أقدما على الزواج بعد ذلك اللقاء بأشهر قليلة. لكن السعادة التي كللت حياتهما المشتركة في البداية، حيث ظهرا أمام الملأ زوجين متناغمين وطافحين بالحيوية ومنصرفين للسهر وإقامة الحفلات، ما لبثت أن أخلت مكانها للتعاسة والضجر والذبول المتسارع.

وقد يكون انصراف الزوجة، التي وصفها ديكنز في مقتبل الزواج بأنها رفيقة سفر رائعة، والتي رافقته في غير واحدة من رحلاته إلى الخارج، إلى الانجاب القياسي للأطفال، حيث سجلت خلال عقد ونصف العقد من الزمن، عشر حالات حمل كامل وحالتي إجهاض، هو أحد الأسباب الرئيسية التي حدت بديكنز إلى النفور المطرد من جسدها الممعن في السمنة والترهل. ولكن الإنجاب لم يكن السبب الوحيد الذي قاد ذلك الارتباط إلى نهايته المحتومة بعد عقدين من الزمن، بل أضيف إليه تنافر في الطباع والأمزجة، وصلت مفاعيله السلبية إلى حد اتهام الكاتب لزوجته بأنها غير متوازنة عقلياً، وبأنها غير مؤهلة لتكون زوجة له وأماً لأطفاله.

وفيما تُقر الكاتبة لوسيندا هكسلي، بأن معظم المؤرخين وكتاب السيرة، قد وقفوا إلى جانب ديكنز في خلافه مع كاترين، راسمين لهذه الأخيرة صورة المرأة المعقدة والمدمنة على الكحول، تنفي لوسيندا بشدة، وهي الحفيدة الخامسة لكاترين، التهم التي أُلصقت بجدتها عن غير وجه حق، بقدر ما ترفض بالمقابل التعامل مع الكاتب النجم بضدية مانوية، بحيث يظهر عند البعض ملاكاً منزهاً عن الإثم، وشيطاناً رجيماً عند البعض الآخر، فيما هو كسائر البشر مزيج من الاثنين. وترى هكسلي أن السبب الأهم لتصدع العلاقة، هو الشهرة الواسعة التي أصابها بُعيد الزواج، الكاتب الذي كانت الملكة فكتوريا نفسها شغوفة بقراءة أعماله. وفيما كانت كاترين منكبة على الحمل والإنجاب، بدأت مرحلة الخسوف بالنسبة لزوجته المتفرغة لتربية الأطفال وشؤون المنزل. ولم يكن ينقص الزوجة المحبطة التي وضعت كتاباً مميزاً حول فن الطهي، سوى زعم بعض النقاد بأن ديكنز نفسه هو من تولى تأليف الكتاب المذكور، لكي تكتمل من حولها دائرة التهميش والمرارة والإحباط.

ورغم كل ما تقدم، فقد تكون العلاقة الغرامية المشبوبة التي ربطت ديكنز بالممثلة الشابة إيلين تيرنان، ابنة الثمانية عشر عاماً، هي القشة التي قصمت ظهر العلاقة بين ديكنز وكاترين. ومع أن ألين لم تكن على جانب كبير من الجمال، كما وصفها بعض كتاب ذلك العصر، فإن أول ما فعله ديكنز بعد غرامه بها، هو التخلص السريع من كاترين، قبل أن يقتني لها منزلاً خاصاً ويتخذها خليلة له. وإذا كان البعض قد ذهبوا إلى القول مرة أخرى بأن ديكنز قد أولد عشيقته الشابة طفلاً، فإن هذه المزاعم قد ظلت هي الأخرى موضع أخذ ورد حتى يومنا هذا. لكن الثابت أن شغفه بإيلين قد فاق شغفه بأي امرأة أخرى، والأدل على ذلك هو أنه خصها قبيل وفاته بكل ما درت عليه أعماله الأدبية من أموال.

لا بد من الإشارة أخيراً إلى أن تشارلز ديكنز قد بذل جهوداً مضنية لكي يُسقط من سيرته كل ما يتصل بنزقه العاطفي، كما بمغامرتيه العاطفيتين الصادمتين مع شقيقتي زوجته ماري وجورجينا. ليس فقط لأن مثل تلك العلاقات المحرمة تعد نوعاً من سفاح القربى، وتتناقض بالكامل مع الأخلاقيات المحافظة للعصر الفكتوري، بل لأنها لا تتواءم في الوقت نفسه مع صورة الكاتب الشهير الذي جعل الاهتمام بالفقراء والطبقات الشعبية، كما بعذابات الإنسان وبانتصار الخير على الشر، المحور الأهم لكتاباته وأعماله الأدبية المختلفة. ولعل ذينك التمزق والتأرجح المتوتر بين الخيارات، اللذين ظلا ينهشان دواخل ديكنز لسنوات طويلة، هما اللذان سببا له، وهو في دبلن، جلطته الدماغية الأولى عام 1869، ومن ثم الجلطة الثانية التي أدت إلى وفاته بعد ذلك بعام واحد وهو لم يتجاوز بعد الثامنة والخمسين من عمره. ولعل أكثر ما يجسد سعي ديكنز إلى ما يتعذر تعريفه وتحديد هويته، في الحب كما في الكتابة والحياة، هو قوله «ما زلت أتعلم أن أصعب التجارب وأفضلها، هي تلك التي لم يتم تأريخها أبداً في أي سجل أرضي، فيما هي تحدث كل يوم». وضعت دليلاً للطبخ ولم تعثر على وصفة ملائمة للحياة