Image

النقد الروائي... مفاهيم ومصطلحات ملتبسة

رغم سعة الدراسات النقدية الحديثة، الأجنبية، والعربية، حول السرد، واتضاح الكثير من المفاهيم والمصطلحات الخاصة بالعملية السردية، ومنها استخدام أصوات السرد الثلاثة: ضمير المتكلم (أنا)، وصيغته الجماعية (نحن)، وضمير الغائب (هو) وضمير المخاطب (أنت)، فضلاً عن تنويعات سردية أخرى، منها السرد بعين الكاميرا، والسرد عبر بناء المشهد وغير ذلك، فما زال بعض النقاد يخلط بين الكثير من هذه الصيغ والأصوات السردية.

وربما يتعرض ضمير الغيبة، من بين هذه الأصوات، أكثر من غيره، إلى اللبس والخلط، لأنه قد يكون أكثر الضمائر شيوعاً وتوظيفاً وقدماً. وقد لاحظت أن بعض النقاد يصف السارد أو الراوي في بعض القصص والروايات الحديثة، بأنه يمثل الراوي أو السارد كلي العلم أو العليم، بينما هو، في الجوهر، سارد «مبأر»، لا علاقة له بالسارد العليم.

ومن المعروف أن السرد العليم أو كلي العلم omniscient narration هو أقدم أنواع السرد التقليدي، وأكثرها انتشاراً أو توظيفاً، وهو في الغالب سردٌ خارجي يقدمه المؤلف، أو ذاته الثانية، دونما شخصية قصصية أو روائية متموضعة داخل النص القصصي أو الروائي. ولهذا فإن هذا اللون من السرد هو سرد غير مبأر ويسميه الناقد الفرنسي جيرار جينيت بالسرد في درجة الصفر. ومن المعروف أن جينيت يقسم الرأي إلى ثلاثة أقسام: السرد العليم، والرؤية مع، الرؤية من الخارج، ويشير الناقد إلى أن التبئير الصفري يعادل ما يسميه النقد المكتوب بالإنجليزية، بالسرد العليم، كما يلتقي مع صيغة (جان بويون) الثلاثية «السرد من الخلف، ويقترب أيضاَ من صيغة تودوروف (السارد أكبر من الشخصية) أي أن ما يسرده السارد هو أكبر مما تعرفه الشخصية.

والسرد العليم، كما أشرنا هو أقدم أنماط السرد، وهو يقوم على وجود سارد خارجي يمنح نفسه سلطة معرفة كل شيء عن دخائل الشخصيات، وأفعالها، وينتقل بحرية بين الأزمنة والأمكنة والشخصيات، ولهذا يسمى أحياناً بالسرد الرباني. ويتفق معظم النقاد على أن سرد هوميروس في «الإلياذة» هو من النماذج الكلاسيكية الأولى للسرد العليم، حيث يتحدث سارد هوميروس العليم في آنٍ واحد عما يجري في أماكن متباعدة، وشخصيات متنوعة، ويمتلك القدرة على التنبؤ بأحداث المستقبل. ومثل هذا السرد يتمثل في الكثير من قصص الأطفال التي تستهل عادة بعبارة «كان ما كان في قديم الزمان».

كما يرى أغلب النقاد أن همنغواي يوظف السارد العليم في قصته القصيرة «تلال مثل فيلة بيضاء» لضمان المزيد من الرؤية الموضوعية والمحايدة التي يتسم بها سرده الذي ينتمي إلى ما يسمى بـ«الواقعية الموضوعية». كما أن رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز أنموذج آخر على السرد العليم، إذْ يبدأ الروائي سرده: «كان أفضل الأزمنة، كان أسوأ الأزمنة. كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة».

وتستهل الروائية جين أوستن رواية «الكبرياء والهوى» برؤية السارد العليم، حيث تكشف عن العالم الداخلية لبطلة الرواية «إليزابيث» فضلاً عن بقية الشخصيات الروائية الأخرى.

ومن المؤسف أن يخلط بعض النقاد والدارسين بين توظيف ضمير الشخص الثالث الغائب غير المبأر المنتمي لرؤية «السارد العليم» في السرد الكلاسيكي التقليدي مع توظيف ضمير الشخص الثالث المبأر الشائع في السرد الحداثي وما بعد الحداثي. وإذا ما كان السرد العليم بتوظيف ضمير الغائب (هو) يقدم دونما وسيط أو وكيل ينوب عن المؤلف، متموضع داخل البنية السردية، فإن السرد المبأر عبر ضمير الشخص الثالث يتحقق عبر وسيط أو وكيل للمؤلف يكون عادة شخصية متموضعة داخل البنية السردية بوصفه شخصية مشاركة أو مراقبة. ومثل هذا السرد نجده في الروايات التي تعتمد على المونولوج الداخلي أو تيار الوعي، حيث يغوص الروائي داخل أعماق الشخصية الروائية ويستبطن عالمها الداخلي، فتكون انثيالات الكلام واسترجاعاته صور الماضي جزءاً من المنظور الداخلي للشخصية الروائية، وبذا يكون السرد مبأراً وليس في درجة الصفر.

ففي قصة «تلال كالفيلة البيضاء» للروائي الأميركي آرنست همنغواي، يستهل المؤلف سرده هذا بتوظيف ضمير الغيبة، دونما سارد داخلي متموضع داخل النص، بوصفه مشاركاً أو مراقباً، مما يجعله ينتمي إلى المؤلف، وربما إلى ذاته الثانية أو السارد الضمني: «كانت التلال الواقعة على الجهة الأخرى من وادي (إيبرو) بيضاء، أما هذه الجهة، فلم يكن هناك ظل ولا أشجار. ويتضح هذا المنحى بشكل أكثر وضوحاً في رواية «الحرب والسلام» للروائي الروسي (ليو تولستوي):

«ذات صباح من شهر حزيران 1805. بعثت آنا بابلوفنا شير، وصيفة الإمبراطور فيودوروفنا، المحظية، أحد الخدم، الذي كان يلبس بزة رسمية، ذات لون أحمر، وبيده بطاقات دعوة إلى جميع معارفها».

وربما تتمثل صيغة السارد العليم بشكل رئيس في حكايات الأطفال وقصص الحيوان والقصص الفوكلوري، كما نجد ذلك في هذا السرد من «حكايات إيسوب» الإغريقية، وهو سرد لحكاية شائعة بعنوان «في الاتحاد قوة»: «كان في عائلة أولاد يتخاصمون دائماً فيما بينهم، وأخفقت جميع مساعي الأب في وضع حد لمنازعاتهم بالموعظة الحسنة، فعزم العقد أن يريهم صورة واقعية لشرور الفرقة».

وعمد الكثير من الروائيين إلى توظيف السارد العليم في أعماله الروائية، ومنهم الروائي الإنجليزي (تشارلز ديكنز، والروائية الإنجليزية جين أوستن، التي استهلت روايتها المعروفة «الكبرياء والهوى» بهذا المطلع:

«الكل يعلم، وهذا صحيح لا بد أن رجلاً يمتلك ثروة جيدة، يحتاج إلى زوجة».

واستهل ديكنز روايته المعروفة «قصة مدينتين» بهذا الصوت السردي:

«كان أفضل الأزمنة، كان أسوأ الأزمنة، كان عصر الحكمة، كان عصر الحماقة».

وهناك تحديدات كثيرة لوظيفة السارد العليم منها التمييز الذي قدمه الناقد (بيرسي لبوك) بين أسلوبي العرض showing والحكي telling، إذ يتحقق في «العرض» حكي القصة نفسها بنفسها، بينما في (الحكي) فهناك في الأغلب ساردٌ عالم بكل شيء، وهو الذي ينهض بتقديم الحكاية، وهو قرين السارد العليم. كما يميز الناقد الفرنسي (جان بويون) بين ثلاثة أنواع من «وجهة النظر» view of point أو السرد:

الرؤية مع: وهنا تتساوى معرفة الشخصية بمعرفة الراوي.

الرؤية من الخارج: ويكون الراوي فيها أقل معرفة من الشخصية.

الرؤية من الخلف: ويكون فيها الراوي عليماً بكل شيء يحيط بالأحداث.

ومن الواضح أن النمط الثالث، وأعني به «الرؤية من الخلف» عند (بويون) يقابل السارد كلي العلم الذي نحن بصدد تحديد إشكالياته. والسارد العليم هنا مثل المؤلف المسرحي الذي يضع بعض «الإرشادات المسرحية» لتأطير العرض المسرحي، وهو أيضاً الذي يعرف كل أحداث القصة وشخصياتها، ما خفي منها، وما ظهر، وهو يتنقل بحرية بين الأزمنة والأمكنة، ويدخل عقول شخصياته ليكشف عن أسرارها وخباياها.

ومن المهم أن نشير هنا إلى اتجاهات الحداثة وما بعد الحداثة، قد وضعت السارد كلي العلم موضع المساءلة النقدية الصارمة، وشجعت على إقصائه، وإحلال السارد المبأر بدله، والذي يتحدث عبر وعي شخصية محددة. ولذا راحت الكثير من الأعمال القصصية والروائية تتجنب توظيف السارد كلي العلم وتميل إلى تقديم الأحداث عبر لا وعي أو عبر عيون الشخصيات المشاركة بالفعل السردي، أو حتى المراقبة، الهامشية، التي تستطيع أن تقدم «وجهة نظر» عما يدور من أحداث وما يتفجر من صراعات داخل الفعل القصصي أو الروائي.

وكنت شخصياً قد اعتمدت على مصطلح وظفه تودوروف في قراءتي لتجربة القاص والروائي فؤاد التكرلي هو مصطلح «أنا الراوي الغائب»، وذلك في دراسة خاصة نشرتها في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وأعدت نشرها في كتابي «مدارات نقدية» (1987)، أشرت فيها إلى كيفية توظيف «أنا الراوي الغائب» الذي يغلب في القصص ذات الطابع الموضوعي، حيث يختفي السارد وراء الأحداث، لكن اختفاء السارد لا يعني الغياب، لأن الراوي الأصيل، هو حاضر دائماً، حيث يمكن التعويض عن ضمير الغائب (هو) بضمير المتكلم (أنا) لتكوين (أنا الراوي الحاضر):

«أنا الراوي الغائب»: «أحس بانقباض شديد».

«أنا الراوي الحاضر»: «أحسست بانقباض شديد».

وقد أشرت آنذاك إلى تركيز فؤاد التكرلي على توظيف أنا الراوي الغائب، ويمكن لنا أن نلاحظ أن هذه التنويعة من تكنيك تيار الوعي، ونعني بها استخدام «أنا الراوي الغائب» قد حررت القاص من الالتزام بالسياق الزماني التقليدي، ومنحته حركة أكبر للتحرك في الزمان والمكان في آنٍ واحد. ولذا يمكن لنا أن نرى في تجربة التكرلي القصصية تجسيداً لأنساق الزمن الثلاثة: النسق الزمني الصاعد والنسق الزمني الهابط والنسق الزمني المتقطع.

ولذا فقد آن الاوان لتصحيح مثل هذا الخلط بين السارد العليم والسارد المبأر، لأن مثل هذا الخلط سوف يلحق الضرر بفهم البنية السردية، كما وجدنا ذلك على سبيل المثال في كتاب الناقد الأكاديمي د. سمير الخليل «الرواية سرداً ثقافياً»، الذي ذهب فيه إلى أن السرد في بعض الروايات التي تناولها بالتحليل ومنها «ملائكة الجنوب» للروائي (نجم والي) و«الطريق إلى منزل هانا» للروائي الراحل (سعد محمد رحيم) وغيرهما، هو سرد عليم، ويتم عبر سارد كلي العلم، بينما نجد أن هذا اللون من السرد هو سرد مبأر لأنه ينثال عبر وعي الشخصيات القصصية ذاتها، وهي في الأغلب شخصيات مشاركة ومتموضعة داخل النصوص الروائية والقصصية.