Image

هل طردت الذكورة المرأة من جنة الفلسفة؟

يا ترى أين هن الفيلسوفات-النساء في تاريخ البشرية الفكري العريق؟ هكذا باغتني السؤال الجارح وأنا في أثينا أتأمل عن قرب تفاصيل السامبوزيوم، وأكاد أسمع أصوات المحاوِرات والمحاورين تسكن المكان الجميل وتحاصره من الجهات الأربع... أينهن؟ أين اختفت آثارهن؟ وقبل ذلك هذه تيانو Théano الفيلسوفة، كيف التحقق من آثارها وهي التي عاصرت فيثاغورس في القرن السادس ق.م بأثينا، وكانت من جلساء حلقاته الأوائل ومن مريديه والمقربين إليه حتى ظن البعض أنها زوجته. ولأهمية حضورها وتميزها في نقاشاتها وطرق طرح أفكارها قيل إنها سليلة الفيلسوف برونتينوس Prontinos. في كل الأحوال إنه من الصعب التغاضي عما أضافته تيانو لجلساء فيثاغورس في فن المحاورة وطقوس الحلقة الفكرية، لكن مع الأسف ليست هناك من مادة غزيرة ملموسة ومكتوبة تؤكد ذلك، بل حتى النصوص القليلة التي عبرت الزمن ما زالت مشكوك في صحتها وتوثيقها، ثم ليس هذا فحسب؛ إذ إن اسم «تيانو» لم يعد يحيل عليها وحدها، بعد أن ورد كثيراً للدلالة على نساء فيلسوفات أخريات جئن بعدها، وساهمن بدورهن في إثراء المناخ الفلسفي منذ القرن السادس ق.م وما بعده. قد نفهم من ذلك أن هذا مؤشر على القيمة الفلسفية والتاريخية لما أبدعته تيانو ولم يصل إلينا، وقد يدل أيضاً على وجود نوعي وعددي لفيلسوفات أخريات كثيرات لمعن بحضورهن الفكري ومحاوراتهن في المجالس الفلسفية المختلفة إلا أن إقصاء أسمائهن كان مقصوداً، فأُهملت أسماؤهن وتسربت أفكارهن إلى كتب زملائهن، فأُطلق عليهن جميعهن اسم تيانو. أُلحقن بها. ربما تجنباً للتعدد. لم تكن أحسن حظاً منهن. كلّهُن في واحدة وواحدة في كلّهِن... فوُضعن جميعهن في سلة واحدة هي «تيانو» لتمثل «الفلسفة النسوية»، أو ما يشبه الأدب النسوي... فـ«تيانو» واحدة تكفي...

أين الفيلسوفات... أين كتاباتهن؟ وهل من الحتمي أن يكتبن لكي يوجدن في الذاكرة الإنسانية الجماعية؟ فهذا سقراط لم يخطّ حرفاً، ولا بوذا ولا أبيكتيتوس Epictète... إلا أن «الحظ» ساق مَن جاء بعدهم ليكتبوا لهم وعنهم، وليدوّنوا فلسفتهم. ماذا لو أن الفيلسوف سقراط (470 - 399 ق.م)، لو أن أبا الفلسفة هذا كتب شيئاً بنفسه. لو أنه ترك أثراً مباشراً، بدلاً من أن يفعل ذلك تلميذه أفلاطون عنه من بعده، أفلاطون الذي يحطّ من قيمة النساء؟ مَن يدري ربما كان سقراط قد حدّثنا عن تلك الفيلسوفة التي عاصرته فملأت الدنيا وشغلته، وشغلت الناس بذكائها وفطنتها وحديثها وأفكارها، إنها أسباسيا Aspasia. لو أن سقراط، على الرغم من موقفه الغريب ذاك -حين طلب أن تفرغ قاعة تنفيذ محاكمته من النساء- وقد تعددت القراءات لأمره ذاك، لو أنه أرّخ لحياته بنفسه، وترك أثراً مباشراً، لربما كان أبلغنا عن إعجابه الشديد بعقل أسباسيا، وأخبرنا عن حضوره وحواراته ونقاشاته بمجلسها العامر أو «صالون» أسباسيا الفلسفي بمصطلحنا المعاصر، أسباسيا، تلك الفيلسوفة، لم تكن محطّ إعجاب سقراط فقط بل أيضاً محطّ إعجاب الوسط العالم آنذاك كله. لم يكن الفيلسوف سقراط يُخْفي دهشته بعقلها النيّر وثقافتها ومحادثاتها، بل أكثر من ذلك كان يفضّلها على محاوريه ومريديه في جلساته الفلسفية الحوارية العلنية الشهيرة. كانت أسباسيا تنعم بحب عارم وباحترام من طرف زوجها بيريكلس Périclès، الرجل القوي في عصر كان اليونان فيه قوياً. بريكليس الذي تزعم هو أيضاً الحياة الثقافية والسياسية وحاذى كبارها من سقراط إلى هيرودوت إلى سوفوكلس... لكن أين ذهبت أفكار أسباسيا وآراؤها وعصارة تفكيرها؟

لم يكتب سقراط شيئاً، إلا أن أفلاطون، إلى جانب غسينوفون Xénophon وأوكليد دي ميغار Euclide de Mégare وآخرين، كان أكثرهم اهتماما بكتابة أثر معلمهم سقراط بعد أن أُعدم بجرعة السم بسبب آرائه. لكنّ أفلاطون وقد وصل الإنسان في زمنه إلى درجة التجريد العقلي، كيف جاءته الفكرة أن يمحو من الأثر أصوات هؤلاء النساء، ويطمس وجودهن وعلى رأسهن أسباسيا، ومحا أثر هؤلاء اللواتي كن يناقشن ويسائلن في ماهية علاقة الإنسان بالأشياء، وعلاقة الأشياء القائمة فيما بينها، ويناقشن الأفكار بل ويبدعن أخرى؟ كيف طاوعه عقله أن يتجاهل ما أثرين به المحاورات بذكاء عالٍ وفطنة ودقة وخصوصية؟ لم يعد يجدي أن نعاتب أفلاطون، ولا معاتبة تلميذه أرسطو الذي ذهب أبعد من معلمه في التقليل من قيمة عقل المرأة، ولم يتردد في تصريحه الأبعد بأن النساء هن أقل شأناً من الرجال وهن أقرب إلى الأطفال أو الدواب. وتتدحرج الفكرة لتصل إلى ملبرانش Malbranche، مريد آخر للفيلسوف ديكارت، ليزيد الطين بلة، فلا يتردد في محاولته البرهان على أن عقل المرأة الذي يتفتق ذكاءً عندما يتعلق الأمر بالأحاسيس إلا أنه لا يمكنه أن يُنتج الفلسفة بسبب عدم قدرته على استيعاب كل ما هو مجرد!

ربما لم يخطر على بال الفيلسوف نكولا مالبرانش، أن نابليون الذي سيأتي بعد رحيله بأربعة وأربعين عاماً وسيكون أقوى الأقوياء، ستشكّل له سيدة فيلسوفة هوساً حقيقياً. إنها مدام دي ستايل، وسيطاردها ويدفع بها للهجرة والاغتراب، ويجعل السبل تضيق بها... كل ذلك من أجل أن يتخلص من أفكارها وكتاباتها. ما جعله يصرح بأنه يعدّها عدوة له، بل واحدة من أعدائه الأربعة اللدودين: روسيا وبروسيا وإنجلترا ومدام دي ستايل... نعم إنها مدام دي ستايل. امرأة عقلُها سبق دوركايم وكامو في كثير من الأطروحات الفلسفية، ويجري على الألسن أيضاً ما يخبرنا بأن نيتشه غرَف كثيراً في أفكاره من نبعها. إنها مدام دي ستايل قوة الضعف! هي المرأة الفيلسوفة الروائية. المرأة التي تفكر وتتساءل وتكتب وتصنع التاريخ. ليس من العدل أن تحضر في التاريخ البشري أسماء مقاومات وثائرات وأديبات ومغنيات... ثم لا تحتفظ الذاكرة الفلسفية لأوروبا وتاريخها الفكري إلا ببعض أسماء قليلة لفيلسوفات مثل: سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir، وآنا آرندت Hannah Arendt، وسيمون فاي Simone Veil، وثلاثتهن من قرن واحد وزمن واحد.