الثقافة العربية بين خيارين
أعادتني رؤية الشاعر السوري علي أحمد سعيد، المعروف باسم أدونيس، حول الثقافة العربية إلى كتاب الدكتور زكي نجيب محمود (1905 -1993)، (عربي بين ثقافتين).
يُعرِف أدونيس الثقافة على أنها (تجاربُ ومختبراتٌ وآفاقٌ لصناعة التقَدُّم). المزج والتفاعل مع ما يحيط بنا أمر إيجابي، شريطة ألا يتوقف العقل العربي عن امتصاص الأفكار، ويتخطى ذلك بإنتاج أفكار تعبر عنه. منبهًا إلى أهمية دراسة المخالفين في الرأي بنفس مستوى اهتمام قراءة المتفقين. ليس على المستوى الثقافي وحسب، بل سياسيًا، ودينيًا، مؤكدًا أن (الثّقافة لا تحيا ولا تتجدَّد إلا في مجتمَعٍ مدَني ينهض على الحرّيّات والحقوق).
وينبه كذلك إلى ما يسود العالم العربي من أدوات تصنيف ديني وسياسي نتج عنها تأويلات مغلقة انتهت إلى أحكام لا تقبل النقض أو المناقشة، فصار رد الفعل أحد خيارين؛ السيف أو النبذ.
كان الدكتور زكي نجيب محمود قد عرض تصوره للثقافة العربية ضمن رؤيته الإبداعية العميقة والشاملة في العديد من الكتب والمقالات، داعيًا إنسان العصر العربي ألا يتناول إنتاج أسلافه بشيء من خضوع فيصغُر أمامهم، بل (بالحب والنقد معًا، لينشأ في نفسه ما يشبه حوارًا حيًا تنقدح له شرارة الإيحاء الذي يتلوه إبداع).
ثم راح الدكتور يراجع أسس الثقافة العربية التي تكونت عبر القرون الماضية بداية من القرن الأول الهجري وما بثه من حياة مكنت لمرحلة تالية تتسع لصياغة المبادئ والقوانين والقواعد اعتمادًا على علوم اللغة، مما مكن العربي القديم في القرن الثالث الهجري من الانفتاح على الثقافة اليونانية بما فيها من فلسفة وعلوم، والفارسية والهندية والمصرية وما انتجوه من علوم إنسانية، فلا يدخل القرن الرابع إلا وقد انصهر كل ذلك في بوتقة واحدة نضجت بها الثقافة العربية فظهر الفارابي وابن سينا والمتنبي وأبو العلاء وإخوان الصفا، فما جاء القرن الخامس إلا وظهر تيار معاكس يخشى انفلات الثقافة العربية كان فارسه الإمام أبو حامد الغزالي، ولأن لكل فعل رد فعل، لم يكد القرن ينقضي حتى ظهر ابن رشد.
وفي نظرة ذكية، يلفت الدكتور زكي انتباهنا لذلك الحوار الفريد المتفاعل بين أطراف جغرافيا الأمة العربية على مدار عشر قرون ومثاله رد ابن رشد الأندلسي على الغزالي المقيم بالشام، مؤكدًا تدفق ماء نهر الثقافة العربية قويًا موصول الاتجاهات.
وبدلاً من استكمال النهر تدفقه عاد العربي في القرون الهجرية الحادي، والثاني، والثالث عشر (المقابلة لأوائل السادس عشر حتى أوائل التاسع عشر بالتاريخ الميلادي) إلى ما كان عليه سلفه في القرن الثاني الهجري. ثلاثة قرون وهو يعيد اختراع العجلة، بينما الغرب ماض بجد في طريقه مقتحمًا القرن التاسع عشر الميلادي وقد صار للعلوم الطبيعية شأن كبير، فيما صاحبنا العربي قابع في كهفه مستأنس بخيالاته.
ثم عادت الشرارة تتقد من جديد في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حين مزج العربي ثقافتيه الموروثة والمنقولة فانقدحت شرارة الإبداع من جديد فولدت الرواية، والمسرحيات، والفنون التشكيلية، وغيرها، ثم ظهرت -أو قل قويت- موجة ثقافية عالية ترفض الغرب مالت بها كفة ميزان الثقافة على حساب كفة مقابلة تنظر وتمحص وتقبل وترفض. ليصبح تحقيق الثقافة العربية الشاملة محل شك، ما لم تتزن الكفتان.
يقول أدونيس (حين يُحظر السّؤال، يُحظَرُ الفكر، وحين يُحظَر الفكر، يُحظَر الإنسانُ نفسُه. وما تكون جَدوى الإنسان إذا عاش مَرْبوطاً بحبْلٍ ولو كان من ذهب؟). إننا بين خيارين إما الخوف من الآخر فنموت في كهوفنا، أو الخروج منها ومعاينة ضوء شمس النهار. فأيهما نختار؟
نقلا من الاهرام