Image

قراءة في رواية ذكريات من منزل الأموات

ما إن تدخل شارع المتنبي حتى تتفاجأ بكمية الكتب المعروضة والتي تحمل اسم فيودور دوستويفسكي؛ حيث يتسابق المثقفون على طلب كتبه, لما تحمل من قيمة أدبية وأفكار كبيرة. 
وقد صادفني عنوان مهم هذا الأسبوع، ألا وهو "ذكريات من منزل الأموات", وهي رواية تصف بإيجاز سيرة ذاتية نشرت ما بين سنتي (1860 و1861) في مجلة "تايم" الروسية للكاتب فيودور دوستويفسكي، يحكي فيها عن حياة المدانين في معسكر بسيبيريا، ويمكن اعتبارها مذكرات وأحداثاً عاشها الكاتب في المعتقل. 
تتخلل الرواية مجموعة من المناقشات وسردا فلسفيا منظما، كما عودنا دوستويفسكي في كتاباته.
 أمضى فيودور دوستويفسكي أربع سنوات بين جدران السجن، بعد إدانته بالمشاركة في حادث بتراشيفسكي؛ حيث نفذ عليه الحكم بالإعدام والأشغال الشاقة في أومسك غرب سيبيريا، في 22 ديسمبر 1849.
هذه التجربة، التي سنحت له أن يصف ما يقع بين أسوار السجون بمصداقية عالية، صورت لنا ظروف الحياة هناك في المعتقلات ونفسية السجناء المحكوم عليهم بدقة متناهية. إذ يتحدّث دوستويفسكي عمّا عاناه هو نفسه في السجن، مع أنه ينسب المذكرات لرجل سمّاه ألكسندر جوريانتشكوف, فيصف للقارئ بحنكة شديدة مشاعر فقدان الحريّة، ويسرد توصيفاً غاية في الدقة للعيش مع قتلة ولصوص يكنّون له عداوة شديدة لأنه ينتمي إلى طبقة السادة الذين يضطهدون أبناء الشعب, بتلك الصورة المأساوية لبيئة الرواية.
لكن مع السير في فصول الرواية سيكتشف القارئ أن هنالك سجناء أخيارا، فليس الكل أشرارا, ويجد بطل الرواية بين السجناء مَن يمكن أن تُفْهَمَ جرائمهم, بل يمكن أن تُعْذَرَ من وجهة نظر الأخلاق, فلا يغرق مع التشاؤم بل يعطينا الكاتب فسحة أمل.
حيث يقدّم لنا صورة عن حياة السجن, بما فيها من شقاء وتعب وقلق, ومن علاقات إنسانية رفيعة, وعلاقات تبادل منافع وتجارة, وأشياء يصعب على المرء تصوّرها.
 
لماذا سميت الرواية بـ"منزل الأموات"؟
يصف لنا الكاتب دوستويفسكي في هذه الرواية حياة السجن بدقة شديدة, من خلال أسواره وفنائه ومطبخه والأماكن الخاصة التي يفضلها بعض السجناء. وصف الثكنات وقذارتها التي تزكم الأنوف، كما تطرق للحشرات المقرفة التي تعايشهم. وصف بعض السجناء الخطيرين الذين يكرهون البشر، ويزرعون الذعر في صفوف المعتقلين. فقد كان السجن بمثابة قبو، أو بعبارة أخرى كالقبر وعذاب الجحيم، ومن خرج من أصفاد السجن وعانق الحرية، كمن ولد من جديد وخرج من بيت ميت نحو الحياة، لهذا سميت بـ"منزل الأموات".
 
نقد لاذع لنظام السجن
يوجّه الكاتب دوستويفسكي، من خلال سطور روايته، النّقد لنظام السجن، فيقول: "يجب أن نعترف بالحقيقة: إن هؤلاء الرجال يملكون كنوزاً رائعة, ولعلّهم بين أبناء شعبنا من أعظمهم مواهب وأغناهم طاقات، لكن مَلَكاتهم الممتازة قد هلكت إلى غير رجعة. فمن المذنب؟". 
فهنا يوجه الكاتب انتقادا شديد اللهجة لنظام السجون الذي يخنق الروح البريئة, ويقدم دراسة لنفسيّة السجين في قسوته, وفي استعداده لبذل ما يملك إزاء بادرة عطف ومودّة إنسانية. 
بالمقابل، يقدم لنا دراسة مهمة لنفسيّة الجلّاد الذي لو كان خير الناس، فإن قلبه يقسو بتأثير العادة، وكيف يتحول إلى وحش كاسر بمجرد دخوله السجن, حيث يمارس أبشع أساليب التعذيب بحق الآخر.
ولا يمكن للذاكرة محو السطور التي تصف قسوة وفرحة الحراس وهم يعذبون المدانين، كأنهم يفعلون عملا صالحا. ويتسلل الكاتب إلى حياة السجناء وعاداتهم وطباعهم الغريبة، ويرسم لنا تعاملهم مع طبقة النبلاء، وعن قصصهم وبؤسهم، ويجعلك تتعاطف مع السجناء.
 
رسائل من "منزل الأموات"
 
 من خِلال الرواية "ذكريات من منزل الأموات" يَقوم بِنَقل ما يَشْعُر به السُّجَناء, وما يَشْعُر به هو نَفسه, وكأنَّها رِسالة من المَساجين لِمَن هُم خارِج السّجن الّذين يَنعَمون بالحُرّية أو للمَسؤولين عن إدارة السُّجون كَي يَشْعُروا مَعَهُم ويُحسِنوا مُعامَلتَهم. 
ويمكن حصرها في أربع رسائل.
الرسالة الأولى: إن الإِنسان أَثناء الحسرات التي يشعر بها في سجن الأَشغال الشاقة, يرتوي بالإيمان كما يرتوي العشب اليابس بماء المطر.
الرسالة الثانية: إن السجناء يعرفون حقيقة الرجال بغريزة فُطروا عليها.
الرسالة الثالثة: السجناء مستعدون أن ينسوا آلامهم إذا قيلت لهم كلمة طيبة.
الرسالة الرابعة: السجين مشاجر متمرد بطبعه.