"التحوّث".. من زاوية أخرى مشفقة!

03:15 2020/12/21

حدث في أحد أيام شهر آب 1973، في مدينة "استكهولم" السويدية، أن قامت عصابة مسلحة، بالسطو على أحد البنوك، و"احتجاز عدد من الرهائن، للضغط على الشرطة خلال عملية التفاوض التي دامت عدة أيام.
 
ما يجعل هذه الحادثة النمطية ملفتة، خاصةً لعلماء النفس: هو أن الرهائن تعلقوا خلال هذه المدة عاطفياً بالخاطفين، وانحازوا إليهم عن ثقة، ودافعوا عنهم بقناعة وحماس.. حتى بعد تحريرهم وإطلاق سراحهم.!
 
يشبه الأمر موقف بعض السياح الذين تم اختطافهم في اليمن، قبل عقود.. لقد تعاطفوا مع الخاطفين وأثنوا عليهم حتى بعد تحريرهم وعودتهم إلى بلدانهم.!
 
كما تشبه الحادثةُ، من هذه النقطة، أحداثاً كثيرة من قبل ومن بعد.. ضمن ظاهرة نفسية فردية وجماعية شخصها العلماء تحت مصطلح "متلازمة استكهولم".
 
يسميها بعضهم "متلازمة هلسنكي"، وتنص عموماً على أن نسبة كبيرة من الضحايا يرتمون في أحضان الجناة عن قناعة ورغبة صادقة، تماماً ككثير من اليمنيين الأسوياء الذين انتهى بهم المطاف إلى "التحوث".
 
بعض هؤلاء أصدقائي. وأعرف أنهم حسنو النوايا، ولا أشك ببراءة انحيازهم إلى الحوثي، وتعاطفهم معه، ودفاعهم عنه بحماس، بل وبحب وإخلاص، وبإرادة وقناعة تامة.!
 
بعضهم أصبح كذلك إثر اجتياح الحوثي لصنعاء، في سبتمبر 2014. وبعضهم إثر الانقلاب الحوثي على المؤتمر وتصفية الزعيم صالح في ديسمبر 2017، وما زال هذا يحدث بمناسبات تخص أصحابها.
 
قبل هذه الأحداث.. كان هؤلاء ضد مختلف الجماعات والميليشيات الدينية المسلحة، وبشكل خاص الجماعة الحوثية التي كانوا يصفونها بالهمجية، قبل أن يقفزوا فجأة إلى أحضانها.!
 
ليسوا انتهازيين ولا جهلة ولا مرتزقة، ولا تبعاً لمن غلب، ولا مراهقين عاطلين، أو يائسين، أو أصحاب مصالح يريدون الحفاظ عليها.. مقارنةً بالنسبة الساحقة من المتحوثين الآخرين.
 
هم أشخاص عاديون.. كانوا مواطنين يؤمنون بشكل مطلق بالدولة، كما كانوا مثقفين لا يمكنهم تصور العصر والمجتمع والحياة دون دولة مدنية ومؤسسات حديثة ولو بالحد الأدنى.
 
لم يخذلوا أحداً.. بل خذلتهم الدولة.. فوجدوا أنفسهم هكذا فجأةً. عُراةً من كل حماية، عزّلاً من كل قوة.. وفي قبضة جماعة مسلحة استحوذت على كل شيء.. وحولت الجميع إلى رهائن.!
 
في هذه الظروف الاستثنائية فقط "تحوّثوا"، ويُفترض أن هذا الانقلاب الجذري. نتيجة الصدمة النفسية المشار إليها أعلاه بـ"متلازمة استكهولم".
 
حسب العلماء فإن "التضامن مع المعتدي هو إحدى طرق الضحية للدفاع عن الذات"، فهي بإيمانها بنفس أفكار وقيم المعتدي، تعتقد أن هذه الأفكار والتصرفات لا تمثل تهديداً أو تخويفاً لها من أي نوع.!
 
تتضمن العملية غسيل مخ، وتنازلاً إرادياً عن الإرادة. والوعي والفكر.. بشكل فردي وجماعي حيث يؤكد المختصون أن نسبة الذين لديهم الاستعداد لها تزيد أحياناً عن 30% من أفراد المجتمع.!
 
 
يعني هذا في هذا المقام أن المشكلة لا تقتصر فقط على بعض "المتحوثين". وبعض الذين "مش إخوان بس يحبوهم"! بقدر ما تتعلق بجزء كبير من المجتمع والشعب اليمني المقيم في منطقة السيطرة الحوثية والإخوانية.!
 
بطبيعة الحال هذه المتلازمة تخدم سلطات الأمر الواقع في اليمن، وكلما طال أمد الحرب طبع المزيد من اليمنيين، علاقتهم النفسية والفكرية والدينية بهذه السلطات الطارئة، وانحازوا إليها كما لو أنها تمثل قيمهم ومواقفهم المبدئية الأصيلة.!
 
حتى لو حكمت "داعش"، فـ"سيتدعوش" قطاع كبير من المجتمع اليمني المغلوب على أمره، كما "تحوث" و"تأخون" في ظل مليشيات هذه الجماعات التي بالمناسبة لم تعد تختلف عن بعضها بشكل نوعي.!
 
ولا لوم على هذه الكائنات والكيانات المتحولة.. هذه العملية تتم بلا وعي، وتتضمن "قتل العقل" وهو المصطلح الذي اختاره "جوست ميرلو" للتعبير عنها، مشيراً إلى أنها "توجد خضوعاً لا إرادياً، وتجعل الناس تحت سيطرة نظام لا عقلاني".