أمة تسلِّي نفسها بالأساطير

02:03 2020/06/27

المهزومون ينتظرون -دائماً- بطلهم القادم من ظهر الغيب.. يلقون مسؤولية الخلاص من الهزيمة والعجز على عاتق كائن غيبي كلي الجبروت، ترسله السماء في الوقت المناسب لنصرة المغلوب، واستعادة الحق، وإقامة العدل، وإعادة الأمور كلها إلى مجراها.
 
كل أمة أو طائفة أو قبيلة أو فئة تلحق بها خسارة أو تُقهر وتُغلب، تلجأ عادة إلى الأمل والرجاء في استعادة وضعها.. ويعينها موروثها الثقافي على تصور أو تخيل منقذها الخاص الذي عليها انتظار رجعته من غيبته، وربما قالت إنه يسير في طريق العودة الآن.
 
هذا الخيال أو التصور حول المنقذ له جذوره في التراث والأساطير القديمة التي تتحدث عن أبطال وهميين، وهي كثيرة في الثقافات المختلفة للشعوب، بما فيها الثقافة العربية – الإسلامية، حيث انتقلت إليها بسبب اختلاط المسلمين باليهود واحتكاكهم بالشعوب المجاورة.. وكثيرة هي الأساطير والمعتقدات التي أصبحت شائعة، حتى إن بعض المسلمين يعتقدون اليوم بوجود المسخ والتناسخ، والمسيخ الدجال، ويعتقدون بما يقوله اليهود عن نزول عيسى من السماء إلى هرمجدون قبل نهاية الدنيا بزمن قصير!
 
أصل ذلك كله هو أسطورة الفادي أو المخلص عند قدامى الفرس، التي انتقلت إلى اليهود، ومنهم إلى النصارى، وإلى المسلمين.. فالفادي أو المخلص في ثقافة قدامى الفرس، اتخذ صورة الإمام الغائب أو المحتجب عند المسلمين الشيعة، وهي بمثابة عقيدة تجند لها الأجناد اليوم في إيران التي يحكمها فقيه حاضر، نيابة عن المهدي الغائب، وقريب منه المهدي المنتظر عند بعض طوائف المسلمين السنة والهادوية من الشيعة الزيدية، وحتى عند السلفيين، إذ لما سيطر جهيمان العتيبي وجماعته على الحرم المكي في اليوم الأول من العام 1400 هجري، أعلن من هناك ظهور المهدي المنتظر، وكان ذلك هو رفيقه وصهره محمد عبد الله القحطاني!
 
الذين استضعفوا بعد اغتيال الإمام علي بن أبي طالب تمسّكوا بالأمل، باستحضار أسطورة الفادي، فزعموا أن عليا لم يُقتل، بل رفعه الله إليه، وأنه سيأتي مجدداً يهش الخلق بعصاه، ويبسط العدل، إذ إن عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل عليا في الحقيقة، بل قتل شيطاناً في هيئة مسلم.
 
ومن تلك الأساطير الأصلية القديمة سطرت قبائل عربية، وفئات مقهورة، وحتى أنظمة سياسية منكسرة، أساطير عن مهديها المنتظر، مثل القحطاني عند اليمنيين الذين احتل الفرس بلادهم، وظهرت أسطورة القحطاني هذا مجدداً بين القبائل اليمنية التي استوطنت الشام قبل الإسلام وفي فجره، وذلك أثناء صراعها مع بني أمية، وكانت مهمة القحطاني هذه المرة نقل السلطة من قبيلة قريش العدنانية إلى القحطانيين.. وقد كان الحديث عن مثل هذا الأمر يزعج معاوية بن أبي سفيان الذي اندفع للتوكيد أن الحكم في قبيلة قريش، وأن من نافسها عليه كبه الله على وجهه في نار جهنم. (قال البخاري إن محمد بن جبر بن مطعم كان يحدث أنه بلغ معاوية أن عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث أنه سيكون ملك قحطاني، فغضب معاوية، وقام يثني على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالاً منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر على رسول الله، وأني سمعت رسول الله يقول إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه)!
 
ومثل قحطاني القبائل اليمنية- القحطانية، كان هناك التميمي في قبيلة مضر، والكلبي الذي انتظرته قبيلة بني كلب.. حتى الأمويين كان لهم مهدي منتظر خاص بهم يدعى السفياني، وذلك أنه لما انتقل الحكم في البيت الأموي من فرع بني سفيان إلى بني مروان بتولية مروان بن الحكم، الحكم بدلاً عن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، لجأ خالد إلى صناعة السفياني، الذي سيأتي به الله ذات يوم قريب لكي يرجع لبني سفيان حقهم الإلهي في الحكم.. ولاحقاً صار السفياني الغائب هو بطل بني أمية كلهم الذي سيرجع بعد الغيبة ليقود ثورة ضد الحكام العباسيين الذين انتزعوا السلطة من بني أمية ونكلوا بهم.. وبعد ما سقطت دولة الفاطميين اخترعوا لهم مخلصاً هو الفاطمي، الذي سوف يقودهم لاستعادة دولتهم.
 
العجيب.. إنه على الرغم من عدم ظهور أو رجعة أي واحد من هؤلاء الفاديين والمخلصين والمهديين الكثر منذ نحو أربعة آلاف عام وحتى اليوم، لا يزال حَمَلة ثقافة الخرافة يتمسكون بهذه الأساطير وينتظرون عودة أبطالهم الوهميين دون جدوى.. ويزيد مثقفون معاصرون يسلون الناس -في أوقات الفراغ واليأس- بمهديين جدد دون هدى، أو عقل، أو ثقة بالحياة وبالأحياء.