جنون الميليشيا
مع كل الأزمات التي تمر بها دولة الملالي في طهران على المستوى الداخلي، لا تزال تتخلى عن منطق الدولة على حساب شره جنون الميليشيا، هذا الهوس الذي بلغ ذروته في ردة الفعل تجاه الاختراق الأمني الهائل في «تفجير زاهدان» ضد قوة من «الحرس الثوري» الذي يمكن أن يعتبر «هويّة» الثورة الإيرانية، ووجهها الأكثر بشاعة وتخلياً عن منطق الدولة إلى جنون الميليشيا، وهو سلوك تجاوز حدود تصدير الثورة وصولاً إلى التدخل السافر في أمن دول المنطقة وتهديدها، واستفحل بعد فشل «الربيع العربي» لتنضم قوافل من التيارات المعادية آيديولوجياً للولايات المتحدة ودول الاستقرار وحلف الاعتدال، وتقدم فروض الولاء السياسي والتحالف البراغماتي لدولة الملالي، بهدف استهداف حلف الاستقرار، وفشل مشروعاتها في تقويض (فضيلة الاستقرار).
ورغم أن التفجير يعبّر عن أزمة داخلية أمنية وانكسارات عميقة داخل صرح «الحرس الثوري»، الذي يحاول اليوم تجاوز قناع دولة المدنية، لينزعه صراحة باتهامه للسعودية والإمارات وباكستان من جهة، ولطلبه السافر من الحكومة ضرورة «الانتقام» والرد السريع، كما جاء في التصريحات الهلعة التي عبر عنها قائد «الحرس الثوري» الإيراني اللواء محمد علي جعفري، في تصريحات بثها التلفزيون الرسمي الإيراني قبل يومين، وتلتها خطوة دبلوماسية باستدعاء السفير الباكستاني واتهام صريح للسعودية والإمارات، معتبراً أن الهجوم سيكون بداية لإجراءات انتقامية يجب ألا تتردد الحكومة الإيرانية في منح الموافقة عليها لـ«الحرس الثوري»، وهو ما يعني بلغة أخرى إعلان حرب من طرف الميليشيا، وتجاوزها لكل الأعراف الدبلوماسية والقانونية، ثم ليأتي وزير الخارجية بتصريحاته ليؤكد انهيار منطق الدولة لصالح جنون الميليشيا، حين ربط الهجوم بـ«مؤتمر وارسو»، وتحميل الولايات المتحدة المسؤولية باعتبارها أعطت الأوامر بالهجوم في سلوك ليس بجديد بترحيل المشكلات والأزمات الداخلية، لكن بلغة تتخلى عن السياسة لصالح منطق الاستعداء والحرب.
بإزاء تلك التعليقات غير السياسية والهوس الآيديولوجي العقائدي في تصريحات «الحرس الثوري»، يدخل تجار الأزمات على الخط من التيارات اليسارية وقنوات الاستثمار في الأزمات بقيادة «الجزيرة»، ليذكوا جنون التصريحات غير السياسية بالتأكيد على إعادة موضعة «دولة الملالي» كرأس الحربة تجاه مشروع الإمبريالية والصهيونية في محاولة لتسويق شعارات شبعت موتاً على مستوى الآيديولوجيا السياسية العربية، ويحاول اليوم تجار الأزمات بعثها عبر التضامن مع دولة الملالي التي تعبث في سوريا ولبنان واليمن والبحرين، وتستهدف الخليج، ليؤكدوا حقيقة لم تكن غائبة بل مغيبة، وهي أن ثمة تشكلات جديدة في المنطقة تبنى على الطائفية السياسية، وليست الدينية، في ظل ارتباك مؤسسات المجتمع الدولي، ورغبة أميركا في الخروج من المنطقة، ومحاولة حلف الإسلام السياسي بقيادة تركيا تدشين مشروعها بإزاء المشروع الإيراني لاستهداف دول الاستقرار وحلف الاعتدال، مع ضمور اقتصادياتها وتنامي مشكلاتها الداخلية.
ما تفعله إيران اليوم لا يعبر عن تصدير للثورة فقط، وإنما تأسيس عقيدة عسكرية جديدة لتعميم نماذج دول الميليشيا، التي بدأت مع تجربة «حزب الله» اللبناني، الذي أجهز على الحياة السياسية في لبنان، رغم الفرص الكثيرة التي منحها وتمنحها دول الاعتدال، كما يفعل في اليمن وفي الوقت ذاته في سوريا، بحجة الحرب على الإرهاب، رغم رعايته الطويلة لتنظيم «القاعدة» الذي ينعم قادته بالإقامة الهانئة في إيران، ويرسلون فتيانهم المدججين بالمتفجرات إلى دول الخليج والعالم على مرأى من الجميع، ومع ذلك تتمسك السعودية ودول الخليج بمنطق الدولة في التحذير من السلوك الإيراني الذي يدمر المنطقة، في حين يحاول الخاسرون في أوروبا في الانتعاش الاقتصادي التصالح مع تلك العقيدة العسكرية، وغض النظر عن جرائم إيران ضد شعبها ودول المنطقة، والتلكؤ في كل حدث سياسي يمس الخليج بشعارات تتصل بحقوق المرأة والإنسان في تناقضات تستلزم إعادة ترسيم أمن الخليج بعيداً عن التحالفات التقليدية، وفتح النظر إلى مناطق جديدة من العالم يمكن التعاون معها ودعمها لمزيد من الاستقرار المؤسس على أمن الأوطان حجر الأساس في أمن الإنسان.
نحن اليوم لا نتحدث عن فسطاطين اجترحهما بن لادن بين الإسلام والكفر، وإنما عن تحالفين؛ بين الإرهاب المنظم المدعوم من دول لا يمكن أن تمرر وجودها السياسي المضطرب إلا بدعم خلايا وأذرع وميليشيات في المنطقة، بحجة استعادة الخلافة أو الحرب على الصليبيين، أو دعم فلسطين، وصولاً إلى مداواة جراحات الإسلام السياسي من الخروج من مشهد «الربيع العربي»، واستبدال العنف السياسي، والاستفادة من فوضى الجماعات العنفية في المنطقة بالديمقراطية والتعددية السياسية الذرائعية.
يواجه الخليج اليوم أكبر وأعنف مشروعات العنف المسلح والإرهاب غير العابر، زمن الميليشيات وتحالف دول في طرح مشروعات أممية عابرة ومقوضة لمفهوم الدولة الوطنية الحديثة المستقرة من خلال العودة؛ إما لمشروع الخلافة المتخيل، أو محاولة اللعب على عواطف ومخيلة حقبة الخلافة.
مشروع استهداف الخليج اليوم خرج عن المضمر والإشارات التلميحية بتصريحات استهداف مباشرة باتت تتبناها قنوات الاستثمار في الأزمات، وفي مقدمتها «الجزيرة»، تضخ عبرها رسائل يتم تمريرها للمشاهد بلغة إعلامية، وبمضامين أذرع استخباراتية ومانحي الدعم من الدول التي تستثمر في الأزمات ومسببيها عبر الشعارات العريضة: «الأمة، فلسطين، الخلافة»، وكل خطاب التمجيد اللاتاريخي وغير العقلاني الذي يجد طريقه سريعاً إلى الجماهير والشارع الإسلامي والعربي المصاب بمتلازمات الخيبة من الواقع، لا سيما في البلدان التي تعاني من أزمات اقتصادية كبرى وتحديات أمنية وسياسية، ومن هنا يمكن فهم توجيه مثل هذا الخطاب وتحديد السعودية دون غيرها، بحكم أنها تعيش نقلة على مستوى التجديد في الاقتصاد والخطاب والانفتاح على العالم، المسنود بإرادة مجتمعية قوية أثبتت بطلان كثير من الفرضيات المسبقة والأحكام الجاهزة عن المجتمع في عقود كان مختطفاً من الخطاب الحالم ذاته.